wb1215c.jpg

التكيف مع تغير المناخ

كوبنهاجن ـ إن التوصل إلى التوازن السليم بين منع الانحباس الحراري العالمي والتكيف مع الآثار المترتبة عليه يشكل واحداً من أهم المساءل السياسية في عصرنا الحالي، وأكثرها إرباكاً. وكثيراً ما يكون هذا التوازن موضعاً للتجاهل.

طبقاً للحكمة التقليدية السائدة بين العديد من دعاة حماية البيئة، فيتعين علينا أولاً أن نفعل كل ما بوسعنا من أجل تخفيف آثار الانحباس الحراري، وآنئذ فقط يصبح بوسعنا أن نركز على استراتيجيات التكيف. وهذا يبدو وكأنه إصرار على الخطأ ـ بل ومناف للأخلاق ـ ما دام بوسعناً أن نفعل المزيد من أجل الناس وكوكب الأرض من خلال جهود التكيف.

فضلاً عن ذلك فإن هذا لا يتفق مع حقيقة لا مفر منها مفادها أننا لن نتمكن، مهما فعلنا، من منع كل التأثيرات الضارة الناجمة عن الانحباس الحراري. وإن لم نكن مستعدين تمام الاستعداد فإن الانحباس الحراري العالمي سوف يسفر عن المزيد من الوفيات والدمار، وخاصة في البلدان الفقيرة والمجتمعات الهشة. وإذا نجحنا في إعداد المجتمعات لتحمل الأعاصير الأكثر شراسة في المستقبل، على سبيل المثال، فنحن بهذا نساعدهم أيضاً على التعامل بشكل أفضل مع الطقس المتطرف اليوم.

هناك كم هائل من الدراسات والبحوث التي تدور حول السبل التي تسبب بها البشر في إحداث تغير المناخ، وكيف يمكننا الحد من ذلك التغير. ولكننا لم نخصص إلا أقل قدر من العمل لبلورة جهود التكيف.

 من الأهمية بمكان أن نقر بأن بعض استراتيجيات التكيف قد تؤدي إلى انبعاث المزيد من غازات الانحباس الحراري. فالاستجابة لندرة المياه على سبيل المثال، بإعادة استخدام ومعالجة مياه الصرف الصحي أو من خلال ضخ المياه من الآبار العميقة أو تحلية مياه البحر، من شأنها أن تتسبب في زيادة استهلاكنا للوقود الأحفوري. واستخدام المزيد من وسائل تكييف الهواء لتبريد منازلنا في الصيف من شأنه أن يؤدي إلى نفس النتيجة ـ رغم أن هذا يشكل أمراً حيوياً إن كنا نريد إنقاذ أرواح البشر. إن التكيف قد يسمح بمستويات أعلى من الانبعاثات الكربونية بطريقة أخرى: الحد من الأذى والضرر الناتجين عن الانحباس الحراري، الأمر الذي يمنحنا المزيد من الوقت لتنفيذ بدائل الاعتماد على الوقود الأحفوري.

ولكن هل ينبغي لأي من هذا أن يمنعنا من استخدام استراتيجيات التكيف؟ للتوصل إلى إجابة مبنية على الاطلاع، فيتعين علينا أن نتعرف على الهيئة التي قد يبدو عليها الكوكب في عام 2100 إذا ما استثمرنا مبالغ مختلفة في جهود التكيف والحد من الانبعاثات الكربونية. ويتعين علينا أن نأخذ في الحسبان تلك الزيادة في الانبعاثات والتي سوف تسفر عنها جهود التكيف لا محالة.

HOLIDAY SALE: PS for less than $0.7 per week
PS_Sales_Holiday2024_1333x1000

HOLIDAY SALE: PS for less than $0.7 per week

At a time when democracy is under threat, there is an urgent need for incisive, informed analysis of the issues and questions driving the news – just what PS has always provided. Subscribe now and save $50 on a new subscription.

Subscribe Now

إن القضية الأعظم أهمية ليست في ارتفاع أو انخفاض مستوى انبعاث الغازات، بل في كم الضرر المناخي الذي يمكننا أن نتجنبه. فما هي المساحة التي نستطيع إنقاذها من الكوكب عن طريق معالجة مشكلة ارتفاع مستوى سطح البحر؟ وكم عدد الأرواح التي قد نستطيع إنقاذها من القيظ الشديد، أو المجاعة، أو الملاريا؟

هذه هي الأسباب الحقيقية التي تجعلنا نهتم بقضية الانحباس الحراري العالمي. والتوصل إلى الأجوبة الصحيحة لهذه التساؤلات يتطلب التوسع في وضع النماذج الاقتصادية، مع أخذ العديد من العوامل المتغيرة في الحسبان وتحليل الفوارق الإقليمية. ومن خلال دراسة جديدة قام ثلاثة من خبراء الاقتصاد المخضرمين في إيطاليا بهذه المهمة بالتحديد ـ فرانشيسكو بوسيلو ، و كارلو كارارو ، و إنريكا دي شيان ، ـ وفي النهاية قدموا لنا حجة اقتصادية قوية لصالح المزيد من التركيز على جهود واستراتيجيات التكيف.

في مستهل دراستهم اطّلع الخبراء الثلاثة على الطرق المختلفة التي قد يؤثر بها المناخ علينا بحلول منتصف القرن. ولقد استند هذا العمل إلى سيناريوهات قياسية، وهو ينطوي على المحاذير النموذجية القائمة على التكهنات والتوقعات في المستقبل البعيد. ولكنهم توصلوا إلى أن الكثير من أعظم أسباب مخاوفنا قد يتبين لنا في النهاية أنها كانت تافهة، أو ربما كانت لتؤدي حتى إلى نتيجة نافعة.

إن ارتفاع مستويات سطح البحر سوف يشكل سبب انزعاج طفيفاً بالنسبة لكل بلدان العالم، فمن المتوقع أن يكون الأثر المالي المترتب على ذلك الارتفاع أقل من 0,1% من الناتج المحلي الإجمالي. وسوف تكون المشاكل الصحية ضئيلة للغاية بالنسبة لكل مناطق العالم باستثناء عدد قليل من الدول. كما سيتسبب الانحباس الحراري العالمي في انخفاض استهلاك الطاقة في كل بلدان العالم تقريباً.

أما التأثيرات المهمة فسوف تنحصر في مجالي الزراعة والسياحة، حيث ستخسر بلدان العالم في المتوسط حوالي 0,5% من الناتج المحلي الإجمالي من كل قطاع. ولكن القدر الأعظم من هذا الضرر سوف يكون بوسع الناس تجنبه من خلال اختيارهم بأنفسهم للتكيف مع التغير الطارئ على بيئتهم. حيث سيختار المزارعون النباتات التي تتحمل الحرارة وتزدهر فيها. وسوف يتم تصميم البيوت الجديدة بحيث تتحمل درجات حرارة أعلى.

إن النماذج الاقتصادية البسيطة، التي كثيراً ما تستعين بها وسائل الإعلام، تظهر لنا أن الانحباس الحراري العالمي غير المقيد سوف يكلف العالم 2% من الناتج المحلي الإجمالي في بلدان العالم الغني بحول نهاية هذا القرن. ولكن هذه النماذج لا تقر بأن الناس سوف يغيرون سلوكهم حين تتغير البيئة. وحين تضع البلدان الغنية استراتيجيات التكيف في الحسبان فسوف يكون بوسعها أن تتكيف مع العواقب السلبية المترتبة على الانحباس الحراري العالمي وأن تستغل التغيرات الإيجابية، وهو ما من شأنه في النهاية أن يجعل صافي تأثيرات الانحباس الحراري العالمي إيجابياً، بما توازي قيمته 0,1% من الناتج المحلي الإجمالي.

ولكن البلدان الفقيرة سوف تكون الأشد تضرراً. ذلك أن جهود التكيف هناك سوف تقلل من الخسائر المرتبطة بتغير المناخ من 5% من الناتج المحلي إلى أقل قليلاً من 3% ـ ولكن هذا يظل يشكل تأثيراً ضخماً. وعلى هذا فإن التحدي الحقيقي الذي تمثله مشكلة الانحباس الحراري يكمن في التعامل مع تأثيرها على العالم الثالث. وهنا، فلابد من القيام بالمزيد من العمل، وفي المقام الأول والأخير التكيف، الذي سوف يأتي بصورة طبيعية.

تُظهر البحوث الجديدة أن التكيف من شأنه أن يحقق قدراً أعظم من الإنجاز مقارنة بمحاولات الحد من الانبعاثات الكربونية. إن خفض الانبعاثات إلى المستوى الذي لا يلحق الضرر الشديد بالنمو الاقتصادي سوف يكون كافياً لتجنيبنا قدراً من الضرر تعادل قيمته 3 تريليون دولار، بينما قد تفلح جهود التكيف في تجنيبنا قدراً من الضرر تعادل قيمته 8 تريليون دولار. ذلك أن كل دولار ننفقه على جهود التكيف سوف يمكننا من تحقيق تغييرات إيجابية توازي 1,7 دولار.

إن الحجة الاقتصادي التي تدفعنا إلى التركيز على جهود التكيف واضحة. والخطوة الحاسمة التالية تتلخص في ضمان تحول الحجج الاقتصادية إلى جزء قوي من حوارنا السياسي بشأن الكيفية التي يتعين علينا بها أن نتصدى للانحباس الحراري العالمي.

https://prosyn.org/SSu9qwrar