ve1078c.jpg

تغير المناخ و"فضيحة المناخ"

كوبنهاجن ـ استقبلت كوبنهاجن في الأيام الماضية الآلاف من الساسة، والبيروقراطيين، والناشطين في مجال حماية البيئة الذين توافدوا عليها لحضور قمة تغير المناخ (المؤتمر الخامس عشر للأطراف المشاركة في معاهدة الأمم المتحدة الإطارية لتغير المناخ COP15 )، بكل التباهي ـ والكِبر ـ الذي قد تبديه مجموعة من جنود الصاعقة الذين ترسخ في أذهانهم اقتناع بأنهم على وشك إنقاذ العالم. ورغم أن الخلافات السياسية القائمة بينهم ما زالت بالغة الضخامة، فإن أعضاء الوفود هناك يهنئون أنفسهم بالتوصل إلى الحلول لمشكلة الانحباس الحراري العالمي.

إن اللغة الصاخبة والثقة المتغطرسة التي تملأ أروقة مركز بيلا هنا من الأمور التي تذكرني بمشهد مماثل: كيوتو 1997. فهناك وقَّع زعماء العالم فعلياً على اتفاق ملزم قانوناً بخفض الانبعاثات الكربونية ـ وهو الأمر الذي سوف يستعصي على رواد كوبنهاجن. ولكن ما الذي أنجزه بروتوكول كيوتو؟ حتى الآن، على الأقل، لا شيء تقريبا.

من المؤكد أن أوروبا أحرزت بعض التقدم في الحد من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. ولكن من بين بلدان الاتحاد الأوروبي الخمسة عشر الممثلة في قمة كيوتو، هناك عشرة بلدان لم تحقق الأهداف المتفق عليها هناك. وكذلك حال اليابان وكندا. أما الولايات المتحدة فلم تصدق حتى على الاتفاق. وفي الإجمال، فمن المرجح ألا يتجاوز إنجازنا جميعاً 5% من أهداف خفض الانبعاثات المتفق عليها في كيوتو.

أو فلنقل بعبارة أخرى إن مؤشر الانبعاثات العالمية في عام 1990 كان 100 درجة. فلو لم يكن لبروتوكول كيوتو وجود على الإطلاق، لكان المؤشر قد أصبح 142,7 درجة بحلول عام 2010. ولو تم تنفيذ بنود بروتوكول كيوتو بالكامل لكان المؤشر قد أصبح 133 درجة. والواقع أن النتيجة الفعلية لبروتوكول كيوتو من المرجح أن تصل بمستوى عام 2010 إلى 142,2 درجة ـ وهي تقريباً نفس النتيجة التي كنا لنتوصل إليها إذا لم نفعل شيئاً على الإطلاق. ونظراًَ لمرور اثني عشر عاماً من المحادثات المستمرة والثناء على كيوتو، فلا أظن أن هذا يشكل إنجازاً كبيراً.

إن بروتوكول كيوتو لم يفشل لأن دولة بعينها خذلت بقية العالم، بل فشل لأن تنفيذ تدابير التخفيض السريعة الجذرية أمر باهظ التكاليف. وسواء اعتبرنا كوبنهاجن نصراً سياسياً أو لم يحدث ذلك، فإن هذه الحقيقة الحتمية من حقائق الحياة الاقتصادية سوف تسود من جديد ـ وسوف تذهب الوعود الكبرى أدراج الرياح مرة أخرى.

وهذا هو السبب الذي يجعلني أدعو عن اقتناع إلى التخلي عن هذه الاستراتيجية العقيمة التي تسعى إلى حمل الحكومات على بذل الوعود بالحد من الانبعاثات الكربونية. فبدلاً من هذا، يتعين على العالم أن يركز جهوده على جعل مصادر الطاقة النظيفة أرخص من الوقود الأحفوري. وينبغي لنا أن نتفاوض بشأن اتفاق دولي يختص بزيادة الإنفاق جذرياً على أبحاث الطاقة الخضراء والتنمية ـ إلى ما مجموعه 0,2% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، أو 100 مليار دولار أميركي سنوياً. ومن دون هذا النوع من الجهود المتضافرة، فإن التكنولوجيات البديلة لن تكون جاهزة لتولي الزمام من الوقود الأحفوري.

BLACK FRIDAY SALE: Subscribe for as little as $34.99
BF2024-Onsite-1333x1000

BLACK FRIDAY SALE: Subscribe for as little as $34.99

Subscribe now to gain access to insights and analyses from the world’s leading thinkers – starting at just $34.99 for your first year.

Subscribe Now

من المؤسف أن الوفود المشاركة في قمة كوبنهاجن لا تقدر مثل هذه الواقعية. ففي اليوم الأول من المؤتمر أعلن كبير مسؤولي تغير المناخ لدى الأمم المتحدة ايفو دي بوير عن مدى تفاؤله بشأن استئناف نهج كيوتو: "في كل يوم تقريباً، تعلن بلدان العالم عن أهداف جديدة أو خطط عمل لخفض الانبعاثات".

إن مثل هذه التصريحات تتجاهل حقيقة مفادها أن أغلب هذه الوعود كانت فارغة تماماً في كل الأحوال تقريباً، إما لأن الأهداف غير قابلة للتحقيق أو لأن الأرقام ملفقة. على سبيل المثال، يبدو التعهد الذي قطعته اليابان على نفسها بخفض الانبعاثات الكربونية بنسبة 25% بحلول عام 2020 غير قابل للتصديق ـ لأنه كذلك بالفعل. فمن غير الممكن بأي حالٍ من الأحوال أن يتمكن اليابانيون بالفعل من الوفاء بهذا الوعد الطموح.

وفي الوقت نفسه انتزعت الصين الاستحسان قبل قمة كوبنهاجن حين وعدت بخفض كثافة استخدامها للكربون (الكم المنبعث من ثاني أكسيد الكربون عن كل دولار من الناتج المحلي الإجمالي) على مدى السنوات العشر القادمة إلى 40-45% من مستواها في عام 2005. واستناداً إلى الأرقام الصادرة عن وكالة الطاقة الدولية فقد كان من المتوقع من الصين بالفعل أن تقلص من كثافة استخدامها للكربون بنسبة 40% من دون الاستعانة بأية سياسات جديدة. فمع تطور اقتصادها سوف تتحول الصين حتماً نحو صناعات أقل استخداماً للكربون. وهذا يعني أن الصين أخذت ما كان الجميع يتوقعون حدوثه، وببعض السرد الدعائي الإبداعي، ألبسته ثوب مبادرة سياسية طموحة جديدة.

ولكن الدعاية تتفوق دوماً على الجوهر في مثل هذه اللقاءات. ولنتأمل معاً كم كانت الوفود المجتمعة في كوبنهاجن سريعة في صرف النظر عن الفضيحة التي يُطلَق عليها الآن "فضيحة المناخ" ( Climategate ) ـ الضجة التي أثيرت حول نشر الآلاف من رسائل البريد الإلكتروني المزعجة وغيرها من الوثائق والمستندات التي تمكن بعض مخترقي الشبكات الإلكترونية من سرقتها من أجهزة الحاسب الآلي في أحد مراكز البحوث البريطانية المرموقة المعنية بدراسة المناخ.

من الخطأ ألا نتعلم بعض الدروس من هذه الفوضى. فقد كشفت فضيحة المناخ عن جانب من المجتمع العلمي لا يتمكن أغلب الناس من الاطلاع عليه أبداً. ولم تكن الصورة جميلة.

فقد كشفت رسائل البريد الإلكتروني المسروقة عن مجموعة من أكثر علماء المناخ نفوذاً على مستوى العالم، وهم يتجادلون، ويبتكرون الأفكار والحلول، ويخططون معاً لفرض ما قد يرقى إلى خط حزبي على قضية تغير المناخ. فقد تلاعبوا بالبيانات والمعلومات التي لا تؤيد افتراضاتهم عن الانحباس الحراري العالمي أو لفقوها. أما الخبراء الذين اختلفوا معهم في الاستنتاجات التي توصلوا إليها فقد شوهوا سمعتهم ووصفوهم بأنهم "بلهاء" و"قمامة". والمجلات التي تجرأت على نشر مقالات معارضة هُدِّدَت بالمقاطعة. لقد خنقوا المعارضة، وقمعوا الحقائق، وحجبوا كل السبل إلى التحقق والتمحيص، وقطعوا طريق التدفق الحر للمعلومات.

وعلى نحو متوقع، سارع المتشككون في حقيقة تغير المناخ نتيجة لأنشطة بشرية إلى استغلال النصوص الواردة في أكثر من 3000 رسالة إلكترونية مسروقة باعتبارها "دليلاً" على أن مسألة الانحباس الحراري العالمي برمتها ليست أكثر من مجرد خدعة احتالت بها عليهم حفنة من الخبراء والمفكرين. وهذه هي المأساة الحقيقية التي كشفت عنها "فضيحة المناخ". ذلك أن الانحباس الحراري العالمي ليس بخدعة، ولكن في وقت حيث تكشف استطلاعات الرأي عن التشكك المتزايد بين دوائر الرأي العام في مسألة تغير المناخ، فإن هذه اللمحات البغيضة المستهجنة لعلماء يحاولون فبركة وطبخ البيانات من الممكن أن تشكل العذر الذي ينتظره العديد من الناس لكي ينصرفوا عن الأمر برمته.

يبدو أن الدوافع التي حركت العلماء المتورطين في فضيحة المناخ كانت كلها نابعة من اعتقاد متغطرس مفاده أن السبيل الوحيد لإنقاذ العالم هو إخفاء أو تحريف الاكتشافات الغامضة والمتناقضة بشأن الانحباس الحراري العالمي والتي قد "تربك" الرأي العام. ولكن الاستعاضة عن الدقة العلمية بتحريف المعلومات والدعاية الكاذبة تشكل في حد ذاتها استراتيجية رهيبة.

ولا يقل عن ذلك بشاعة ذلك الإصرار على تبني استجابة أثبتت فشلها لما يقرب من عقدين من الزمان في التعامل مع مسألة الانحباس الحراري العالمي. وبدلاً من تغطية النقائص التي تعيب النهج الذي يمثله بروتوكول كيوتو والتظاهر بأن الوعود الكبرى تترجم في النهاية إلى عمل حقيقي، فيتعين علينا أن نعترف بأن إنقاذ العالم يتطلب استراتيجية أكثر ذكاءً من تلك التي نصِر على ملاحقتها على نحو جامد ضيق الأفق في كوبنهاجن.

https://prosyn.org/6BcX6Vgar