buiter3_Hannah McKay - WPA PoolGetty Images_jermycorbynborisjohnsonchurch Hannah McKay/WPA Pool/Getty Images

الخروج بأفضل النتائج من الخروج البريطاني المؤسف

نيويورك ــ لم تُـسفِر الانتخابات العامة في المملكة المتحدة هذا الشهر عن البت في مسألة الخروج من الاتحاد الأوروبي فحسب، وإنما أنهت أيضا رؤية زعيم حزب العمال جيريمي كوربين المتطرفة للاشتراكية. الواقع أن زوال كوربين الانتخابي كان غوثا لكل الذين رفضوا النموذج الاقتصادي الفنزويلي: "إذا كان أي شيء يتحرك فعليك بتنظيمه؛ وإذا ظل يتحرك فعليك بفرض ضريبة عليه؛ وإذا ظل يرتعش رغم ذلك فما عليك إلا أن تؤممه". لقد أُنقِذَت المملكة المتحدة من انحراف باهظ التكلفة كان ليدوم خمس سنوات. ليس من المستغرب إذن أن تتنفس الأسواق الصعداء في أعقاب انتصار حزب المحافظين الساحق.

من المؤكد أن برنامج السياسة الاقتصادية الذي اقترحه رئيس الوزراء بوريس جونسون بعيد كل البعد أيضا عن تقاليد مارجريت تاتشر الداعمة للسوق والمؤيدة للحكومة الصغيرة. وسوف تنفق حكومته المزيد، وتفرض المزيد من الضرائب، وتلاحق بعض التدخلات التي تحمل طابعا شعبويا في الأسواق والصناعات. غير أن نهجها لن يقترب حتى من تطرف البرنامج الذي اقترحه كوربين.

يتعين عل جونسون أن يعكف الآن على تنفيذ اتفاق الخروج من الاتحاد الأوروبي الذي ظل يناصره لفترة طويلة. يتمحور اتفاق الخروج مع الاتحاد الأوروبي حول أربع قضايا أساسية: مساهمات بريطانيا المالية في ميزانية الاتحاد الأوروبي في المستقبل؛ ومعاملة مواطني الاتحاد الأوروبي في المملكة المتحدة والعكس؛ ومكان أيرلندا الشمالية في الاتحاد الجمركي والسوق الموحدة؛ واستمرار اختصاص محكمة العدل الأوروبية.

لا يزال من غير الواضح أي نمط من العلاقات التجارية والاقتصادية والسياسية بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي قد تكون له الغَلَبة بعد انتهاء الفترة الانتقالية في الحادي والثلاثين من ديسمبر/ككانون الأول 2020. وتظل علاقات المملكة المتحدة التجارية مع الدول غير الأعضاء في الاتحاد الأوروبي في المستقبل غير مؤكدة بذات القدر. على الرغم من تأكيدات جونسون القاطعة على عدم تمديد الفترة الانتقالية، فإن فشله ــ دون تحمل أي تكلفة سياسية ــ في الوفاء بوعده بالخروج من الاتحاد الأوروبي في الحادي والثلاثين من أكتوبر/تشرين الأول 2019، يشير إلى أن كل الخيارات تظل مطروحة على الطاولة. ذلك أن "الإعلان السياسي" الذي سيصاحب مشروع الانسحاب مجرد طموح غير ملزم قانونا. ولن تبدأ بعد المفاوضات الحقيقية حول العلاقة بين الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة في المستقبل (من المقرر أن تعقد الجولة الأولى في الأول من مارس/آذار 2020).

تستغرق أغلب المفاوضات التجارية سنوات حتى تكتمل. فقد تم التوقيع على الاتفاقية الاقتصادية التجارية الشاملة بين الاتحاد الأوروبي وكندا في الثلاثين من أكتوبر/تشرين الأول 2016، بعد أكثر من عشر سنوات من المحادثات (على اعتبار أن العملية بدأت في مارس/آذار 2004 مع الموافقة على إطار لاتفاق تعزيز التجارة والاستثمار بين كندا والاتحاد الأوروبي). وعلى الرغم من تطبيق أجزاء كبيرة من اتفاق تعزيز التجارة والاستثمار بين كندا والاتحاد الأوروبي بشكل مؤقت في انتظار الحصول على موافقة كل الموقعين، فإن الاتفاق ذاته لم يدخل بعد حيز التنفيذ.

من الأهمية بمكان فضلا عن ذلك أن نتذكر أن التعريفات والحصص ليست سوى غيض من فيض. فهناك العديد من الحواجز المرئية وغير المرئية أمام التجارة، بعضها قانوني وتنظيمي، وبعضها الآخر إداري وبيروقراطي وسياسي. وحتى في غياب التعريفات والحصص، يظل من الممكن تعويق التجارة بفِعل إعانات الدعم، والضرائب، وتشريعات مكافحة الإغراق، والقيود المفروضة على الاستثمار المباشر الأجنبي، والتلاعب بأسعار الصرف.

Secure your copy of PS Quarterly: The Climate Crucible
PS_Quarterly_Q3-24_1333x1000_No-Text

Secure your copy of PS Quarterly: The Climate Crucible

The newest issue of our magazine, PS Quarterly: The Climate Crucible, is here. To gain digital access to all of the magazine’s content, and receive your print copy, subscribe to PS Premium now.

Subscribe Now

على سبيل المثال، غالبا ما تتنكر تدابير الحماية في هيئة معايير لتنظيم العمل، والغذاء، والبيئة، والمعايير الخاصة باتفاقية تطبيق تدابير الصحة والصحة النباتية، أو في هيئة حجج تتصل بمتطلبات المحتوى المحلي، أو الصناعات الناشئة، أو حماية الملكية الفكرية، أو سياسات المناخ، أو حل المنازعات، أو حقوق الإنسان. ويبدو أن إبداع البشر لا يعرف حدودا عندما يتعلق الأمر باختراع حواجز الحماية. ففي أكتوبر/تشرين الأول من عام 1982، اشترطت الحكومة الفرنسية دخول كل الواردات من أجهزة تسجيل الفيديو الكاسيت البلاد عبر بويتيرز، وهي بلدة تقع على بُعد مئات الأميال من أقرب ميناء شحن مهم. وقد ظل هذا الحاجز غير الجمركي ساريا حتى إبريل/نيسان 1983.

لكن الترتيبات الاقتصادية والسياسية بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي لن تظل عُرضة لحالة متفشية من عدم اليقين فحسب. فسوف تدير المملكة المتحدة المفاوضات حول علاقاتها مع دول ثالثة من خارج الاتحاد الأوروبي من موقف ضعف نسبة إلى موقفها قبل الخروج من الاتحاد الأوروبي، عندما كانت تتفاوض كجزء من كتلة واحدة تتألف من 28 دولة.

يتصور بعض أنصار الخروج البريطاني أنهم قادرون على تدبر الأمر. لكن جونسون ليس لديه حجج مقنعة لدعم هذا الوعد (أو التهديد) بتحويل المملكة المتحدة إلى ملاذ آمن للضرائب المنخفضة خال من الضوابط التنظيمية. إن نمط جونسون المحافظ ــ المتمثل في حكومة كبيرة تتبنى مبدأ توجيه الاستثمار، وسلالة من المحافظة التي تؤمن بالأمة الواحدة مع مسحة شعبوية ــ يستبعد "الحل السنغافوري". وعلى الأكثر، ربما يُـجَـرَّب مثل هذا النهج في التعامل مع القطاع المالي.

لتحقيق هذه الغاية، من الممكن أن تنتج المراجحة التنظيمية تغييرات كبيرة في قواعد لعبة الاستثمار وصناعات التأمين، والتي تخضع حاليا لإطار التوجيهات الخاصة بأدوات الأسواق المالية 2 لعام 2004 وإطار التوجيهات الخاصة بالوفاء بالديون 2. ورغم أن مدينة لندن ستخسر بلا شك أعمالها لصالح منافسيها في الاتحاد الأوروبي، فإن المملكة المتحدة من الممكن أن تعمل على استنان الضوابط التنظيمية والتشريعات التي تجعلها في موقف يسمح لها باجتذاب الأعمال الجديدة من أوروبا والاقتصاد العالمي. أما عن القطاعات الرئيسية مثل صناعة السيارات، فأنا أشك في إمكانية تحويل الأنظمة الضريبية والتنظيمية على النحو الذي يضمن القدرة التنافسية العالمية بحلول عام 2021.

من بين الحريات الأساسية الأربع المرعية في الاتحاد الأوروبي، من المرجح أن تتسبب نهاية حرية حركة الأشخاص في إلحاق أشد الضرر وأبعده أمدا بجانب العرض في اقتصاد المملكة المتحدة. ومرة أخرى، من الممكن من حيث المبدأ تخفيف معظم أو حتى كل هذه التكاليف من خلال سياسة مستنيرة ذات توجه عالمي في التعامل مع الهجرة، على غرار النموذجين الأسترالي والكندي. المشكلة هي أن التوازن السياسي في المملكة المتحدة بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي من غير المرجح أن يعمل على توليد نظام هجرة فعّال قائم على النقاط، ناهيك عن نظام يجتذب الطلاب الأجانب الموهوبين.

لقد تجنبت المملكة المتحدة الوقوع في هاوية كوربين. لكنها لا تزال على مسار يقودها إلى ضائقة مؤلمة خلال سنوات عديدة من المفاوضات وتنفيذ السياسات. ويتبقى لنا أن نرى ما إذا كانت قادرة على الخروج بأفضل النتائج من خروجها المؤسف من الاتحاد الأوروبي.

ترجمة: إبراهيم محمد علي          Translated by: Ibrahim M. Ali

https://prosyn.org/Egq1Y0Oar