acemoglu45_ANDREA BERNARDIAFP via Getty Images_russiaoligarchyacht Andrea Bernardi/AFP via Getty Images

إغلاق الملاذات الضريبية اختبار حقيقي لعزيمة الغرب

كمبريدج ــ ربما لا تسير حرب روسيا في أوكرانيا كما خططت لها، لكن الأسوأ لم يأت بعد. وبينما تجاوزت العقوبات المالية الغربية ضد المؤسسات الروسية والقِـلة النخبوية الثرية كل توقعات بعض المراقبين، فإنها لم تستهدف الجذور الغربية التي تغذي نظام الرئيس الروسي فلاديمير بوتن.

كما هي الحال في العديد من الأنظمة اللصوصية الـنَـهابة، تقوم سلطة بوتن على صفقة بين حاكم مستبد وقِـلة نخبوية ثرية. يحكم المستبد البلاد كيفما شاء ويعمل على إثراء حلفائه، الذين يكتنزون ثروات ضخمة من موارد البلاد الطبيعية أو من خلال احتكارات يقرها النظام.

لكن الأمر ينطوي على مشكلة: فمع تضخم ثروات أفراد القِـلة النخبوية الثرية، أصبحوا أكثر انزعاجا وقلقا بشأن سلطة المستبد التي تمكنه من الاستيلاء على أصولهم أو إلحاق الأذى بأسرهم. وهم يرون أمامهم خيارين. الأول يتمثل في تطوير مؤسسات رسمية وفعلية لتقييد الحاكم المستبد، وربما حتى تمهيد الطريق للإصلاح البنيوي الذي تشتد الحاجة إليه. أما الخيار الثاني فيتلخص في نقل أصولهم وأسرهم إلى الخارج، حتى يتسنى لهم تجنب مصير ميخائيل خودوركوفسكي، أحد رواد الـقِـلة النخبوية الثرية الذي صادر بوتن أملاكه وسجنه في أوائل القرن الحالي.

استفاد العديد من أعضاء الـقِـلة النخبوية الثرية من الخيار الثاني، الذي يتطلب شكلين أساسيين من المساعدة الغربية. أولا، يجب أن يزودهم النظام المصرفي الغربي بفرص سهلة لغسل ثرواتهم. كانت لندن وسويسرا ولوكسمبورج وقبرص وجيرسي وجزر البهاما، والعديد من مناطق الاختصاص الأصغر حجما مثل جزر كايمان، تلبي هذا الـمطلب لسنوات. وكانت البنوك الأوروبية أيضا من المشاركين المتحمسين في هذه العملية، وقد زودها النظام المالي الأميركي جميعا بالبنية الأساسية الضرورية.

ثانيا، يجب أن ترحب العواصم المالية الغربية بأسر أعضاء الـقِـلة النخبوية الثرية، والسماح لها بشراء العقارات (غالبا عن طريق اتحادات احتكارية وشركات صورية) وتسجيل أطفالهم في مؤسسات تعليمية رائدة. وقد رحبت مدن مثل لندن ونيويورك بأفراد الـقِـلة النخبوية الثرية وأقاربهم في قلب المجتمع الراقي.

من المعقول أن نفترض أن قدرة بوتن على إقامة حكم استبدادي شخصاني كانت لتتقلص إلى حد كبير لو لم يجد أفراد النخبة الروسية هذه الأبواب الذهبية الخفية إلى الغرب. لكن هذه ليست مجرد قصة روسية. فالعديد من أصحاب الثراء الفاحش في العديد من البلدان الأخرى ــ بما في ذلك دول الخليج النفطية، والصين، والهند، وتركيا، وبعض بلدان أميركا اللاتينية، وأوكرانيا في أوقات سابقة ــ كانوا يعملون على تأمين مكاسبهم غير المشروعة بالتواطؤ مع مؤسسات مالية وحكومات غربية.

HOLIDAY SALE: PS for less than $0.7 per week
PS_Sales_Holiday2024_1333x1000

HOLIDAY SALE: PS for less than $0.7 per week

At a time when democracy is under threat, there is an urgent need for incisive, informed analysis of the issues and questions driving the news – just what PS has always provided. Subscribe now and save $50 on a new subscription.

Subscribe Now

لم تساعد هذه الترتيبات في دعم الأنظمة الاستبدادية في روسيا وأماكن أخرى فحسب، بل اجتاحت أيضا مؤسسات مالية واقتصادات غربية. عملت أموال الـقِـلة النخبوية الثرية على تغيير هيئة الأسواق المالية من خلال ضخ كميات ضخمة من السيولة، وبالتالي تغيير طبيعة الوساطة المالية والمساهمة في اختلالات التوازن العالمية المتنامية. منذ عام 1990، أدارت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، والعديد من الدول الغربية الأخرى، عجزا كبيرا في الحساب الجاري الممول بواسطة تدفقات رأس المال من بقية العالم.

وبعد مرور ثلاثة عقود من الزمن على هذه الحال، بلغت أحجام الأموال "الـمُـظـلِـمة" المتداولة في النظام المالي الدولي أبعادا هائلة. تشير تقديرات الخبير الاقتصادي جابرييل زوكمان من جامعة كاليفورنيا في بيركلي إلى أن ما لا يقل عن 8% من الثروة المالية العالمية (أكثر من 7.5 تريليون دولار) يُـحـتَـفَـظ بها الآن في ملاذات ضريبية ــ هذا الرقم لا يشمل أشكالا أخرى من الأموال المظلمة الموجودة في قلب النظام المالي الغربي. ليس من المستغرب إذن أن تمثل الأنظمة الاستبدادية حصة ضخمة على نحو غير متناسب من هذه الأنشطة المالية المظلمة. وجد زوكمان أن نحو 52% من كل ثروات الأسر في روسيا ــ بل وحتى حصص أكبر في دول الخليج ــ يُـحتَـفَـظ بها في الخارج.

أدت هذه التدفقات غير المشروعة إلى تفاقم المشكلات الاجتماعية والسياسية في مختلف أنحاء العالم. وأفضى الطلب على المساكن الفاخرة إلى تغذية طفرات عقارية هَـدّامة في بقاع ساخنة مثل لندن ونيويورك وفانكوفر. ولأن العقارات الممتازة في هذه المدن كانت بالفعل مملوكة لأثرياء في الغالب، فقد ساهم التضخم الناجم في أسعار المساكن في تفاقم التفاوت بين الناس. ربما ساهمت التدفقات المالية غير المشروعة أيضا في الازدهار الملحوظ في أسواق الأوراق المالية الغربية في السنوات الأخيرة، والذي عاد بالمزيد من الفوائد على الأثرياء.

لكن التأثير الأشد خُـبثا كان داخل المؤسسات المالية والضريبية الغربية. فقد عمل استيعاب الغرب للأموال المظلمة على تسريع الاتجاه نحو هياكل ملكية أشد غموضا، وصناديق ائتمان معقدة تهدف إلى التهرب من الضرائب، وبدعم من بنية أساسية هائلة تتألف من مصرفيين، ومحاسبين، ومحامين في مختلف أنحاء العالم. عندما حلل زوكمان وزملاؤه البيانات الواردة من عمليات تدقيق عشوائية لتحديد حجم التهرب الضريبية في الولايات المتحدة، خلصوا إلى أن أغني 1% من الأسر الأميركية تُـخـفـي أكثر من 20% من دخولها باستخدام أدوات توفرها هذه الصناعة الـشـائـنة.

على نحو مماثل، من خلال أوراق بنما ثم أوراق باندورا، أثبت الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين أن التهرب الضريبي في الخارج أكثر منهجية وانتشارا مما نتصور في عموم الأمر. فقد تورط الآلاف من أهل المال والأعمال، والساسة، والمشاهير من مختلف أنحاء العالم في ما يرقى إلى عملية غسل أموال عالمية.

خَـلَّـفَـت هذه المخططات وصمة عار على الديمقراطيات والمؤسسات المالية الغربية. وفي حين اكتنز أعضاء الحكومات اللصوصية ثروات هائلة غير مشروعة ــ وبينما تدخلت النخب الغربية في هذه العملية ــ كانت الحكومات الغربية عاجزة عن تحصيل عائدات ضريبية من الأغنياء. نتيجة لهذا، جرى تقليص مؤسسات وخدمات دولة الرفاهة، وازدادت فجوات التفاوت القائمة اتساعا.

الواقع أن الساسة الغربيين المصدومين إزاء حرب بوتن غير المبررة اندفعوا إلى دعم العقوبات التجارية القاسية، وطرد معظم (ولكن ليس كل) البنوك الروسية من نظام سويفت (SWIFT) للرسائل المالية وتجميد القسم الأعظم من حيازات البنك المركزي الروسي من النقد الأجنبي. لكن تضييق الخناق على التهرب الضريبي والأموال المظلمة الآن، بعد أن أصبحت سِـمة أساسية في النظام المالي الحالي، يتطلب قدرا أعظم من الشجاعة.

مع ذلك، إذا كان من المحتمل إن نحظى بأي لحظة مناسبة لتغيير المسار، فإنها اللحظة الحالية. إن صناع السياسات الغربية قادرون على كبح جماح مخططات التهرب الضريبي التي ظلت تعود بالفائدة بشكل غير عادل على أقوى الشركات وأباطرة المال في العالم لسنوات. وبهذا، يصبح بوسعهم أيضا تحصيل الإيرادات الضريبية التي تشتد الحاجة إليها لدعم البنية الأساسية الجديدة والبرامج الاجتماعية في الداخل. إذا كان الغرب راغبا في أن يرى نفسه على الجانب الصحيح من التاريخ، فإن استهداف روسيا لا يكفي. بل يتعين عليه أن يزيل القذارة من بيته أيضا.

ترجمة: مايسة كامل            Translated by: Maysa Kamel

https://prosyn.org/6L6wt8Dar