باريس ـ كان الانصهار الذي حدث في مفاعل محطة فوكوشيما لتوليد الطاقة النووية بمثابة صدمة زلزالية سياسية هزت أركان الأرض جميعا. بيد أن هذه الصدمة كانت إيديولوجية ولم تستند إلى أساس في العلوم.
لقد تعرض مديرو شركة طوكيو للطاقة الكهربائية (تيبكو)، التي تدير مفاعلات فوكوشيما، لانتقادات مستحقة بسبب استخدامهم لمولدات تنتمي إلى جيل قديم ولم تحظ بالقدر الوافي من الصيانة. والآن يشعر اليابانيون، الذين يعتبرون أنفسهم أفضل المهندسين في العالم، بالمهانة والخزي.
ولكن على الرغم من احتجاجات الشوارع، فإن ردة الفعل الجمعية في اليابان لم تستهدف إدانة الطاقة النووية أو التبرؤ منها. ذلك أن حادث فوكوشيما لم يسفر على أية حال، إلا عن إصابات شديدة لحقت بعدد قليل من الأشخاص ـ ربما تعرض أقل من عشرة عاملين لكمية خطيرة من الإشعاع. أما الآلاف من الضحايا اليابانيين فقد غرقوا جميعهم تقريباً بسبب موجة التسونامي، وليس الانصهار النووي.
ولن تتوقف اليابان عن استخدام الطاقة النووية. بل إن مهندسيها يعكفون الآن على تطوير محطات أفضل وأكثر أمانا، بالاستعانة على الأرجح بمفاعلات نووية مصغرة كان من المخطط لها أن تحل محل محطة توليد الطاقة التي نالت منها الشيخوخة في فوكوشيما. والواقع أن أغلب اليابانيين ظلوا محتفظين برباطة جأشهم في مواجهة المأساة التي ضربت بلادهم، تماماً كما فعل أغلب الناس في بلدان آسيا المجاورة، مثل الصين وكوريا الجنوبية، والذين لم يتخلوا عن التزامهم بالطاقة النووية.
ولكن هذه ليست الحال في أوروبا والولايات المتحدة، حيث كانت توابع فوكوشيما الإيديولوجية أشد تدميرا. فكانت حكومة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أول المبالغين في ردة الفعل، فقررت إغلاق كل المفاعلات النووية في الأعوام المقبلة ـ وهي الخطوة المتطرفة التي كانت مدفوعة بسياسات داخلية. إن حكومة ميركل لا تضم بين صفوفها أعضاء من حزب الخضر الألماني، ولكن إيديولوجية الخضر تحولت إلى عقيدة وطنية واسعة النطاق في ألمانيا. بل وقد يكون بوسعنا أن نعزو العداء الشعبي الموجه إلى الطاقة النووية إلى عبادة الطبيعة الرومانسية في ألمانيا، وليس العلم.
ومن المقرر أن يستعاض عن المحطات النووية في ألمانيا بالمزيد من المحطات الحرارية، وهذا يعني زيادة كبيرة في الانبعاثات الكربونية الألمانية، وذلك لأن ألمانيا من دون طاقة نووية على أراضيها سوف تضطر إلى شرائها من فرنسا، التي لا تعتزم إغلاق منشآتها النووية.
At a time when democracy is under threat, there is an urgent need for incisive, informed analysis of the issues and questions driving the news – just what PS has always provided. Subscribe now and save $50 on a new subscription.
Subscribe Now
وفي الولايات المتحدة، كانت التوابع الإيديولوجية أقرب إلى تلك التي ضربت ألمانيا وليس فرنسا: فقد لا تكون الولايات المتحدة ميالة إلى الإفراط في الرومانسية، ولكن عبادة الطبيعة تظل جزءاً من الشخصية الأميركية. وقد يفيدنا هذا بعض الشيء في فهم الأسباب التي جعلت الديمقراطيين، الذين يسيطرون على الرئاسة ومجلس الشيوخ، يلتزمون إلى هذا الحد بالطاقة البديلة المزعومة.
لقد أنفقت إدارة الرئيس باراك أوباما مليارات الدولارات على طاقة الرياح، والطاقة الشمسية، والإيثانول، وغير ذلك من مصادر الطاقة البديلة. والآن تُستخدَم مأساة فوكوشيما لتبرير الاستمرار في هذه البرامج المشكوك في جدواها الاقتصادية. وبوسعي أن أراهن على أن أي شكل من أشكال الطاقة البديلة هذه لن تحل بسهولة في محل النفط والغاز والطاقة النووية في المستقبل المنظور.
فبأسعار السوق، ومن دون إعانات الدعم العامة، تتكلف الوحدة من الطاقة المنتجة في الولايات المتحدة باستغلال الشمس أو الرياح خمسة أضعاف الوحدة المنتجة باستخدام النفط أو الغاز أو المحطات النووية. فضلاً عن ذلك فإن أنصار الطاقة البديلة يعملون بشكل منهجي على التهوين من أثرها السلبي على البيئة. فمن المعروف أن إقامة توربين واحد الرياح تحتاج إلى خمسين طناً من الفولاذ ونصف ميل مربع من الأرض الفضاء. وإذا كان لكاليفورنيا أن تعتمد على الطاقة الشمسية لتغطية استهلاكها من الكهرباء، فإن الولاية لابد وأن تكون مغطاة بالكامل بالخلايا الضوئية.
والمفارقة الكبرى التي ينطوي عليها الموقف الحالي هي أن الإبداع الحقيقي، وفي غياب الدعم الحكومي، يجري الآن في مجال توليد الطاقة، كإنشاء مفاعلات نووية مصغرة على سبيل المثال. وقد يكون الحدث الخارق الواعد في هذا المجال هو اكتشاف احتياطيات هائلة من الغاز الصخري في مختلف أنحاء كوكب الأرض.
فبفضل التقنيات الجديدة في مجالات مثل التكسير الهيدروليكي والحفر الأفقي، قد يصبح الغاز الصخري المورد المهيمن للطاقة في المستقبل. وبهذا فإن الغاز الصخري قد يساعد في تقليص الاعتماد على نفط وغاز الأوبك في حين يعمل على تقليل الانبعاثات الكربونية. ذلك أن الانبعاثات الكربونية الناجمة عن تشغيل مولدات الغاز أقل بعشرة أمثال من نظيراتها الناجمة عن حرق الكتلة الحيوية أو الإيثانول، الذي يروج له علماء البيئة بشدة.
في مرحلة ما بعد فوكوشيما، سوف تعتمد إمدادات الطاقة في المستقبل على الأرجح على المزيد والمزيد من المفاعلات النووية المصغرة والغاز الصخري ـ وهو المزيد القادر على الاستجابة للطلب المتزايد على الطاقة الكهربائية من جانب سكان العالم الآخذين في التحضر السريع.
إن مثل هذا التوازن في استخدام الطاقة المتجددة من شأنه أن يؤثر على التوازن العالمي الحالي للقوى. ذلك أن الغاز الصخري متوفر بغزارة في أوروبا وأميركا الشمالية، على النقيض من النفط والغاز. وعلى هذا فإن إمدادات الطاقة في الغد قد تعمل على تعزيز قوة الأنظمة الديمقراطية في العالم وإضعاف أنظمة الأشد قمعية، حيث يتركز أغلب النفط اليوم. وضمن هذا الإطار الجيوسياسي الجديد، سوف تحيا الإيديولوجية الخضراء كعبادة رومانسية، أو وصفة أكيدة للانتحار الاقتصادي.
To have unlimited access to our content including in-depth commentaries, book reviews, exclusive interviews, PS OnPoint and PS The Big Picture, please subscribe
At the end of a year of domestic and international upheaval, Project Syndicate commentators share their favorite books from the past 12 months. Covering a wide array of genres and disciplines, this year’s picks provide fresh perspectives on the defining challenges of our time and how to confront them.
ask Project Syndicate contributors to select the books that resonated with them the most over the past year.
باريس ـ كان الانصهار الذي حدث في مفاعل محطة فوكوشيما لتوليد الطاقة النووية بمثابة صدمة زلزالية سياسية هزت أركان الأرض جميعا. بيد أن هذه الصدمة كانت إيديولوجية ولم تستند إلى أساس في العلوم.
لقد تعرض مديرو شركة طوكيو للطاقة الكهربائية (تيبكو)، التي تدير مفاعلات فوكوشيما، لانتقادات مستحقة بسبب استخدامهم لمولدات تنتمي إلى جيل قديم ولم تحظ بالقدر الوافي من الصيانة. والآن يشعر اليابانيون، الذين يعتبرون أنفسهم أفضل المهندسين في العالم، بالمهانة والخزي.
ولكن على الرغم من احتجاجات الشوارع، فإن ردة الفعل الجمعية في اليابان لم تستهدف إدانة الطاقة النووية أو التبرؤ منها. ذلك أن حادث فوكوشيما لم يسفر على أية حال، إلا عن إصابات شديدة لحقت بعدد قليل من الأشخاص ـ ربما تعرض أقل من عشرة عاملين لكمية خطيرة من الإشعاع. أما الآلاف من الضحايا اليابانيين فقد غرقوا جميعهم تقريباً بسبب موجة التسونامي، وليس الانصهار النووي.
ولن تتوقف اليابان عن استخدام الطاقة النووية. بل إن مهندسيها يعكفون الآن على تطوير محطات أفضل وأكثر أمانا، بالاستعانة على الأرجح بمفاعلات نووية مصغرة كان من المخطط لها أن تحل محل محطة توليد الطاقة التي نالت منها الشيخوخة في فوكوشيما. والواقع أن أغلب اليابانيين ظلوا محتفظين برباطة جأشهم في مواجهة المأساة التي ضربت بلادهم، تماماً كما فعل أغلب الناس في بلدان آسيا المجاورة، مثل الصين وكوريا الجنوبية، والذين لم يتخلوا عن التزامهم بالطاقة النووية.
ولكن هذه ليست الحال في أوروبا والولايات المتحدة، حيث كانت توابع فوكوشيما الإيديولوجية أشد تدميرا. فكانت حكومة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أول المبالغين في ردة الفعل، فقررت إغلاق كل المفاعلات النووية في الأعوام المقبلة ـ وهي الخطوة المتطرفة التي كانت مدفوعة بسياسات داخلية. إن حكومة ميركل لا تضم بين صفوفها أعضاء من حزب الخضر الألماني، ولكن إيديولوجية الخضر تحولت إلى عقيدة وطنية واسعة النطاق في ألمانيا. بل وقد يكون بوسعنا أن نعزو العداء الشعبي الموجه إلى الطاقة النووية إلى عبادة الطبيعة الرومانسية في ألمانيا، وليس العلم.
ومن المقرر أن يستعاض عن المحطات النووية في ألمانيا بالمزيد من المحطات الحرارية، وهذا يعني زيادة كبيرة في الانبعاثات الكربونية الألمانية، وذلك لأن ألمانيا من دون طاقة نووية على أراضيها سوف تضطر إلى شرائها من فرنسا، التي لا تعتزم إغلاق منشآتها النووية.
HOLIDAY SALE: PS for less than $0.7 per week
At a time when democracy is under threat, there is an urgent need for incisive, informed analysis of the issues and questions driving the news – just what PS has always provided. Subscribe now and save $50 on a new subscription.
Subscribe Now
وفي الولايات المتحدة، كانت التوابع الإيديولوجية أقرب إلى تلك التي ضربت ألمانيا وليس فرنسا: فقد لا تكون الولايات المتحدة ميالة إلى الإفراط في الرومانسية، ولكن عبادة الطبيعة تظل جزءاً من الشخصية الأميركية. وقد يفيدنا هذا بعض الشيء في فهم الأسباب التي جعلت الديمقراطيين، الذين يسيطرون على الرئاسة ومجلس الشيوخ، يلتزمون إلى هذا الحد بالطاقة البديلة المزعومة.
لقد أنفقت إدارة الرئيس باراك أوباما مليارات الدولارات على طاقة الرياح، والطاقة الشمسية، والإيثانول، وغير ذلك من مصادر الطاقة البديلة. والآن تُستخدَم مأساة فوكوشيما لتبرير الاستمرار في هذه البرامج المشكوك في جدواها الاقتصادية. وبوسعي أن أراهن على أن أي شكل من أشكال الطاقة البديلة هذه لن تحل بسهولة في محل النفط والغاز والطاقة النووية في المستقبل المنظور.
فبأسعار السوق، ومن دون إعانات الدعم العامة، تتكلف الوحدة من الطاقة المنتجة في الولايات المتحدة باستغلال الشمس أو الرياح خمسة أضعاف الوحدة المنتجة باستخدام النفط أو الغاز أو المحطات النووية. فضلاً عن ذلك فإن أنصار الطاقة البديلة يعملون بشكل منهجي على التهوين من أثرها السلبي على البيئة. فمن المعروف أن إقامة توربين واحد الرياح تحتاج إلى خمسين طناً من الفولاذ ونصف ميل مربع من الأرض الفضاء. وإذا كان لكاليفورنيا أن تعتمد على الطاقة الشمسية لتغطية استهلاكها من الكهرباء، فإن الولاية لابد وأن تكون مغطاة بالكامل بالخلايا الضوئية.
والمفارقة الكبرى التي ينطوي عليها الموقف الحالي هي أن الإبداع الحقيقي، وفي غياب الدعم الحكومي، يجري الآن في مجال توليد الطاقة، كإنشاء مفاعلات نووية مصغرة على سبيل المثال. وقد يكون الحدث الخارق الواعد في هذا المجال هو اكتشاف احتياطيات هائلة من الغاز الصخري في مختلف أنحاء كوكب الأرض.
فبفضل التقنيات الجديدة في مجالات مثل التكسير الهيدروليكي والحفر الأفقي، قد يصبح الغاز الصخري المورد المهيمن للطاقة في المستقبل. وبهذا فإن الغاز الصخري قد يساعد في تقليص الاعتماد على نفط وغاز الأوبك في حين يعمل على تقليل الانبعاثات الكربونية. ذلك أن الانبعاثات الكربونية الناجمة عن تشغيل مولدات الغاز أقل بعشرة أمثال من نظيراتها الناجمة عن حرق الكتلة الحيوية أو الإيثانول، الذي يروج له علماء البيئة بشدة.
في مرحلة ما بعد فوكوشيما، سوف تعتمد إمدادات الطاقة في المستقبل على الأرجح على المزيد والمزيد من المفاعلات النووية المصغرة والغاز الصخري ـ وهو المزيد القادر على الاستجابة للطلب المتزايد على الطاقة الكهربائية من جانب سكان العالم الآخذين في التحضر السريع.
إن مثل هذا التوازن في استخدام الطاقة المتجددة من شأنه أن يؤثر على التوازن العالمي الحالي للقوى. ذلك أن الغاز الصخري متوفر بغزارة في أوروبا وأميركا الشمالية، على النقيض من النفط والغاز. وعلى هذا فإن إمدادات الطاقة في الغد قد تعمل على تعزيز قوة الأنظمة الديمقراطية في العالم وإضعاف أنظمة الأشد قمعية، حيث يتركز أغلب النفط اليوم. وضمن هذا الإطار الجيوسياسي الجديد، سوف تحيا الإيديولوجية الخضراء كعبادة رومانسية، أو وصفة أكيدة للانتحار الاقتصادي.