التبشيرية الإسلامية

يعتقد الكثيرون بأن الاستنهاض الديني والراديكالية السياسية لمسلمي الغرب إنما هي انعكاس لعادات وصراعات الشرق الأوسط أو لنقل العالم الإسلامي بشكل أوسع. ولكن السلفية الإسلامية أو الأصولية الإسلامية إنما هي وفي الدرجة الأولى نتيجة حتمية لعولمة الإسلام وتغريبه، وهي نتيجة حتمية لفصل الدين عن الثقافة بشكل عام.

وتعتمد كل أشكال التطرف الديني في بنيانها على فكرة الدين الصافي الخالي من تأثيرات وتغيرات الثقافة. ويشترك الانبعاث الإسلامي اليوم مع الحركات الأمريكية التبشيرية في الدوغمائية والعمومية والنصوصية؛ إذ يرفض الطرفان الثقافة والفلسفة وحتى اللاهوتية ويفضلان عليها القراءة الحرفية للنصوص المقدسة والفهم المباشر والآني للحقيقة من خلال الإيمان الشخصي.

وتعكس الكتب التي تنشر حديثاً في الغرب والتي تحمل عناوين مثل؛ ما هو الإسلام؟ ماذا يعني أن تكون مسلماً؟ كيف تعيش الإسلام ؟ هذه النظرة. من السهل جداً أن تصوم رمضان في أفغانستان أو باكستان أو مصر، حتى ولو لم تكن ترغب بذلك. ولكن يواجه المسلمون المقيمون في أوربا ضرورة إيضاح وتفسير عقيدتهم. وبالتالي فقد غدا العلماء عديمو الفائدة من وجهة نظر العقيدة الصافية التي تعذر وصلها مع ثقافة بحد ذاتها.

لم تعد المسألة مقتصرة على الأسئلة التي تدور حول الفكر الإسلامي، بل أصبحت معنية بالممارسات الدينية للمسلمين. وتبدو أشكال التدين الإسلامية اليوم قريبة من الكاثوليكية أو البروتستانتية، وحتى اليهودية. إذ يصر أنصار التدين المعاصرون اليوم أكثر وأكثر على الإيمان الشخصي والخبرة الروحية الفردية. ويبني أتباع هذا الاتجاه "المولودون من جديد" شخصياتهم من خلال إعادتهم لاكتشاف العقيدة.

وحتى في الإسلام المتشدد، فإننا لا نرى عقيدة ثقليدية تمترس نفسها في وجه المسيحية الغربية. فعندما وصل الطالبان للحكم في أفغانستان سنة 1996 أقاموا علاقات ممتازة مع الأمريكيين مباشرة، وكان بإمكان الغربيين التجول في أفغانستان بحرية ما بين سنتي 1996 و 1998.

لم يكن الطالبان في مواجهة مع الثقافة الأمريكية بل كانوا في مواجهة مع الثقافة الأفغانية التقليدية. و إلا لماذا منعوا اقتناء الطيور المغردة؟ ولماذا منعوا اقتناء الطائرات الورقية؟ ويبدو التفسير مشتركاً في جميع أنواع الأصوليات؛ وذلك لاعتقادهم بأن هذا العالم إنما وجد لإعداد المؤمنين للخلاص فقط. وليس من واجب الدولة هنا أن تؤمن العدالة الاجتماعية وأن تكرس دور القانون، ولكن يكمن دورها في خلق الفرص للمؤمنين في إيجاد الخلاص، وحتى لو كان الأمر بالإكراه.

Introductory Offer: Save 30% on PS Digital
PS_Digital_1333x1000_Intro-Offer1

Introductory Offer: Save 30% on PS Digital

Access every new PS commentary, our entire On Point suite of subscriber-exclusive content – including Longer Reads, Insider Interviews, Big Picture/Big Question, and Say More – and the full PS archive.

Subscribe Now

وكانت حجة الطالبان بسيطة؛ إذا بدأ طائرك بالغناء وأنت تصلي فسوف تتشوش أفكارك عن الصلاة وبالتالي ستفسد صلاتك، فإذا كنت مسلماً جيداً فإنك ستعيد الصلاة، ولكن وبما أننا لا نعرف فيما إذا كنت مسلماً جيداً أم لا، فإنه من الأسهل أن نمنع تملّك العصافير المغردة، وذلك لأنها تهدد خلاصك.

ومن ناحية مشابهة، فالطائرات الورقية تعلق بالأشجار، وإذا تسلقت الأشجار لتحرير طائرتك الورقية فقد تلمح من فوق جدار جارك امرأة بلا حجابها، الأمر الذي يحملك الذنوب. فلماذا إذاً نخاطر بالاحتراق في جهنم من أجل طائرة ورقية؟ من الأفضل أن نمنعها.

وبالتالي، فإن الأصولية ليست حركة دفاعية للثقافات التقليدية المهددة بالانقراض، وإنما هي انعكاس لاختفاء هذه الثقافات. وبالتالي فإنه من الخطأ بمكان أن نصل الأصولية الحديثة بفكرة الصدام بين الحضارات. إذ لا يتجه الصغار نحو الأصولية لتجاهل المواطنين الغربيين لحضارة آبائهم. إنما الأصولية أمر فردي يمثل صراعاً بين الأجيال، وهو ثورة من الفرد على عقيدة أهله.

وغالباً ما يشدد الأصوليون من أي ملة كانت على رموز وطرق وأطوارٍ وقيم متشابهة. فعندما قرر بيم فورتوين من هولندا أن يشن حملة ضد التأثير الإسلامي، كان يدافع عن الحرية الجنسية لا عن القيم المسيحية التقليدية.

ولكن يقف المسلمون في هذا الموضوع ومواضيع أخرى مثل الإجهاض ومفاهيم العائلة جنباً إلى جنب مع المسيحيين المحافظين.

وعلى الرغم من ذلك فإن هذه العموم

يات لا تفسر الإسلام السياسي الراديكالي. فأسامة بن لادن مثلاً لا يمثل ظاهرة تقليدية في العنف السياسي في الإسلام وإنما هو أقرب لحالة شاذة. وقد ولد محمد عطا وزكريا موسوي وكامل داوودي ـ من جديد ـ في مرسيليا ولندن ومونتريال، لا في مصر أو في المغرب (وقطعوا جميعهم صلاتهم بعائلاتهم).

وبالإضافة إلى ذلك، يذهب الأصوأصوليون الشباب للقتال في البوسنة والشيشان وأفغانستان أو في كشمير بدلاً من بلادهم الأم، لأنهم لا يعتبرون بأن الشرق الأوسط قلب الإسلام المحاصر من قبل الصليبيين. إنهم يعيشون في عالم عالمي؛ فهم لا يعتبرون أنفسهم شرق أوسطيين.

يفسر النفور من الثقافات التقليدية الأعداد المتزايدة من الأتباع الجدد في كل شبكات العمل الإرهابي المكتشفة حديثاً، فمثلاً كان ثلث أتباع شبكة بيغال في فرنسا تقريباً من الجدد. واعتقلت الشرطة الفرنسية مواطناً ألمانياً يحمل اسماً بولندياً على علاقة بالهجوم الإرهابي على الكنيس اليهودي في جيربا في تونس. وقد كان ريتشارد ريد الذي حاول تفجير طائرة بريطانية، وجوزيه باديللا المتهم بالتخطيط لزرع قنبلة كيميائية في الولايات المتحدة الأمريكية، وجون ووكر لينديه الطالباني الأمريكي، كانوا كلهم من الأتباع الجدد.

غالباً ما يولد الأتباع الجدد في أوربا في الأحياء الفقيرة المعدمة التي تعج بصغار السن الذين يفتقرون لخيارات العمل، الذين يتجهون تدريجياً للعيش في عالم اقتصادي جانح (إجرامي). وقد هجر اليسار الراديكالي العنيف في أوروبا اليوم مناطق العزل الاجتماعي هذه. لقد اعتاد الراديكاليون سابقاً أن يتعلموا استعمال الكلانشينكوف وخطف الطائرات مع الفلسطينيين. ولكنهم اليوم يتعلمون هذه الأشياء مع القاعدة.

ويبقى بحثهم عن حركات التحرير الأسطورية الفوضوية المفقودة نفسه، وبالتالي يبقى عدوهم نفسه متمثلاً بالصرح الإمبريالي الأمريكي. وهم ليسو نتاج الحضارة والتاريخ الغربي أو الشرق أوسطي، و إنما هم الانصهار بين كل التواريخ، إنهم نتاج العولمة. إنهم في بيتهم في عالم اللا بيت.

https://prosyn.org/hhjyWZKar