كولومبيا وكولومبيا الأخرى

بوجوتا ــ في ميدلين، ثاني أكبر مدن كولومبيا، يمكنك أن تستمع إلى عرض مثير للإعجاب من قِبَل مكتب عمدة المدينة حول المجمعات الصناعية الناشئة وشركات التكنولوجيا الجديدة. ثم تكتشف بمجرد إلقاء نظرة على هاتفك الذكي أن مقاتلين تابعين لعصابات اختطفوا أحد جنرالات الجيش، وأن المفاوضات الرامية إلى إنهاء عقود من الحرب الأهلية مع القوات المسلحة الثورية في كولومبيا، العصابة الثورية الأقدم في أميركا اللاتينية، متوقفة تماما.

الواقع أن كولومبيا هي الدولة الوحيدة في أميركا اللاتينية حيث يمكنك حضور حلقات دراسية في جامعات ذات مستوى عالمي، والتعرف على الشركات المتعددة الجنسيات المتكاثرة، وتبادل الحديث مع ساسة يتسمون بالكفاءة والاقتدار، وكل هذا في حين تعلم تمام العلم أن المواطنين يواجهون بعضهم البعض بالمناجل ومدافع البازوكا على بُعد عشرات قليلة من الأميال. وبهذا المعنى، تنقسم كولومبيا إلى بلدين لم تنقطع الحرب بينهما منذ فترة طويلة للغاية.

فعلى أحد الجانبين، هناك كولومبيا التي تتسم بالنمو الاقتصادي السريع والاستثمار الأجنبي المزدهر، والمدن المجددة والسياسات الاجتماعية المبدعة. وعلى الجانب الآخر، هناك كولومبيا التي يهيمن عليها الكولونيل أورليانو بوينديا (الشخصية الخيالية في رواية جابرييل جارسيا ماركيز)، وهو الرجل العسكري الذي أشعل شرارة سبع عشرة حرباً أهلية ــ وخسر كل واحدة منها.

والنبأ السيء هنا هو أن الصراع بين كولومبيا وكولومبيا الأخرى كان سبباً في خسائر بشرية هائلة، حيث عاني العديد من المواطنين منذ بدأ هذا الصراع من الفقر، والحرب، وانتهاكات حقوق الإنسان، أغلب حياتهم، إن لم يكن طيلة حياتهم. والنبأ الطيب هو أن كولومبيا الحديثة، بلد السلام والتقدم، في طريقها إلى تحقيق النصر.

وبوسعنا أن نرى ثمار هذا النصر في أماكن مثل ميدلين، التي كانت قبل عشرين عاماً فقط تَعُج بعصابات المخدرات والعنف. واليوم، يتقاطر إلى ميدلين رؤساء البلديات ومخططو المدن المتلهفون إلى التعلم عن التجديد الحضري من مختلف أنحاء العالم. فهي المدينة التي تتباهى بالمكتبات العامة التي تحمل الثقافة إلى الأكواخ البسيطة عند أعالي التلال وعربات القطار الهوائي المعلق التي تحمل السكان إلى/ومن محال عملهم كل يوم. ومن الصعب أن نتخيل أي مدينة أخرى خضعت لمثل هذا التحول الدرامي الذي خضعت له ميدلين في السنوات الأخيرة (وإن كانت دبي وشنغهاي تسابقانها).

كما شهدت البلاد بالكامل تقدماً اقتصادياً كبيرا. فمنذ اندلاع الأزمة المالية في عام 2008، كانت كولومبيا وبيرو على رأس الاقتصادات الأفضل أداءً في أميركا الجنوبية. فبرغم تباطؤ النمو في مختلف أنحاء المنطقة بسبب انخفاض أسعار السلع الأساسية ونهاية التيسير الكمي في الولايات المتحدة، يتسارع اقتصاد كولومبيا في واقع الأمر. ويتوقع صندوق النقد الدولي أن يبلغ معدل النمو هناك 4.8% هذا العام ونحو 4.5% في عام 2015.

Introductory Offer: Save 30% on PS Digital
PS_Digital_1333x1000_Intro-Offer1

Introductory Offer: Save 30% on PS Digital

Access every new PS commentary, our entire On Point suite of subscriber-exclusive content – including Longer Reads, Insider Interviews, Big Picture/Big Question, and Say More – and the full PS archive.

Subscribe Now

لا شك أن الانخفاض الحاد في أسعار النفط العالمية ليس بالنبأ الطيب بالنسبة لكولومبيا، التي أصبحت في السنوات الأخيرة من الدول الرئيسية المنتجة للهيدروكربون. ولكن القواعد الصارمة التي تحكم الميزانية، والتي تشبه القواعد المعمول بها في شيلي، تساعد في الحفاظ على سياسة مالية راسخة. وقد أشارت الحكومة إلى استعدادها إذا دعت الحاجة إلى زيادة الضرائب من أجل تحقيق هدف خفض الدين العام تدريجياً وتحسين الخدمات العامة. ويبدو مجتمع المال والأعمال، برغم بعض المقاومة في مستهل الأمر، على استعداد لتقبل هذه الزيادة.

الواقع أن كولومبيا مجتمع يتسم بالتفاوت الشديد، حيث يراوح معامل جيني، وهو مقياس شائع للتفاوت، حول 0.5 ــ وهو نفس نطاق البرازيل وشيلي. وترجع المشكلة إلى أسباب عديدة، أحدها هو سوق العمل المختلة التي تجبر العديد من الكولومبيين على قبول العمل غير الرسمي أو الكف عن البحث عن عمل على الإطلاق.

ولكن الحكومة لا تخجل من الحديث عن إعادة التوزيع. والواقع أنها أطلقت بالفعل برامج للتحويلات (مثل زيادة المعاشات لصالح المتقاعدين الفقراء)، وقد ساهمت سياساتها في انحدار معدل البطالة لخمس سنوات متوالية.

وكما لاحظ وزير المالية ماوريشيو كارديناس في خطاب حماسي ألقاه على مؤتمر للعمل المصرفي في الأسبوع الماضي في ميدلين، فبرغم أن إدارة الرئيس خوان مانويل سانتوس تمتد جذورها تاريخياً إلى قوى يمين الوسط السياسية في كولومبيا، فإن حصافتها المالية وسياستها الاجتماعية الناشطة تؤهلها للانضمام إلى "الطريق الثالث" للديمقراطية الاجتماعية.

وفي السنوات المقبلة، ربما يساهم عاملان في دفع التطور المستمر في كولومبيا. أحدهما هو التحالف الباسيفيكي، والذي يضم أيضاً المكسيك وبيرو وشيلي. فالشركات تتعلم الآن كيف تصدر المنتجات الجديدة من خلال بيعها في أسواق إقليمية. ولكن في أميركا الجنوبية، كثيراً ما تَسَبَّب واقع تدابير الحماية القاسي في خنق خطاب التكامل التجاري. ومن حسن الحظ أن هذا بدأ يتغير مع توطيد كتلة التجارة الحرة بين البلدان المطلة على المحيط الهادئ ــ التي يقطنها 215 مليون نسمة والتي تمثل 37% من الناتج المحلي الإجمالي في أميركا اللاتينية.

أما العامل الثاني ــ الذي لم يصل بعد ــ فهو السلام، المتجسد في هيئة وقف نهائي للعمليات العدائية مع القوات المسلحة الثورية في كولومبيا. هذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها تعليق المحادثات، وقد لا تكون الأخيرة. ولكن لم يسبق من قبل قط أن أحرزت المفاوضات مثل هذا القدر من التقدم، مع التوصل إلى اتفاقات مهمة في العديد من المجالات.

ليس هناك ما هو أكثر أهمية من بناء كولومبيا التي لم يعد مواطنوها يخشون الوقوع في مرمى وابل من الرصاص أو جَرَّهم من منازلهم في منتصف الليل. ومن ناحية أخرى، لا ينبغي لأحد أن يستخف بالعائد الاقتصادي المترتب على إحلال السلام، والذي قد يعزز نمو الناتج المحلي الإجمالي بنحو نقطة مئوية كاملة سنوياً لمدة عشر سنوات أو أكثر، وفقاً لتقديرات خبراء الاقتصاد في بوجوتا.

قبل ربع قرن من الزمان، بدا الأمر وكأن كولومبيا الآمنة المزدهرة حلم مستحيل. غير أن هذا الحلم أصبح اليوم في المتناول. وفي وقت يتسم باشتداد حِدة الصراع السياسي، وقِلة قصص النجاح إلى حد باعث على الألم، يمنح الكولومبيون العالم سبباً للأمل.

ترجمة: أمين علي          Translated by: Amin Ali

https://prosyn.org/ikVAUtLar