موسكو ــ يظن الرئيس الروسي فلاديمير بوتن فيما يبدو أنه بالتوقيع على اتفاق تحالف ظاهري مع الرئيس الصيني شي جين بينج في الرابع من فبراير/شباط الماضي في بكين، قد أنجز خطوة تضاهي الزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون إلى الصين عام 1972. لكن كما كان الاتحاد السوفيتي الخاسر الأكبر من التقارب الصيني الأميركي في عام 1972، فمن المرجح أن ينتهي الأمر بروسيا إلى أن تكون الخاسر الأكبر من اتفاق بوتن-شي الجديد.
كان لقاء نيكسون وماو تسي تونج لحظة محورية في تاريخ الحرب الباردة، حيث فاق تأثيره على مسارها حتى تأثير أزمة الصواريخ الكوبية. ففي ذلك الوقت، كانت العلاقات بين الصين والاتحاد السوفيتي بلغت مستوى من الكدر أعظم كثيرا مما تصور معظم العالم، بما في ذلك غالبية الأمريكيين.
بدأت العلاقات بين العملاقين الشيوعيين في الاضمحلال بدرجة كبيرة بعد "الخطاب السري" الذي ألقاه نيكيتا خروتشوف عام 1956 خلال جلسة مغلقة في إطار مؤتمر الحزب الشيوعي السوفيتي العشرين، الذي ندد فيه بستالين. تسبب هذا الخطاب، مع حملة خروتشوف الأوسع نطاقا لاجتثاث الستالينية، في استفزاز ماو الذي استنكر تلك التصرفات واعتبرها نزعة تحريفية ــ ربما خشية أن يواجه إدانة مماثلة يوما ما.
أدت الاختلافات الأيديولوجية وتباين السياسات إلى انهيار العلاقات السياسية، لتبلغ الخلافات ذروتها بالانقسام الصيني السوفيتي عام 1960. وبعد تسعة أعوام، اشتبكت القوات السوفيتية والصينية في قتال وحشي استمر سبعة أشهر على طول نهر أوسوري، قرب إقليم منشوريا. وتفادى الجانبان بأعجوبة الانجراف إلى حرب شاملة.
عندما توجه نيكسون إلى الصين، كان غرضه استغلال هذا العداء بين القوتين الشيوعيتين الرئيستين في العالم. لكنه لم يتوقع، ولا مستشاره للأمن القومي هنري كيسنجر، مدى النجاح الذي تحقق له. فقد بدا للكرملين الخامل متثاقل الخطى في عهد ليونيد بريجنيف أن الصين قد تحولت إلى المعسكر الآخر في الحرب الباردة.
وعندما وجد بريجنيف نفسه محاصرا على طريقة بسمارك بكابوس مواجهة حرب على جبهتين ضد حلف شمال الأطلسي (الناتو) في الغرب، ودولة صينية حانقة في الشرق، سرعان ما تحمس لفكرة كيسنجر بشأن تحقيق انفراج في العلاقات بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفيتي. بل إنه ذهب لأبعد من ذلك بالتوقيع على اتفاقيات هلسنكي، التي مكنت الغرب من التصدي للاستبداد السوفيتي على أسس تتعلق بحقوق الإنسان.
At a time when democracy is under threat, there is an urgent need for incisive, informed analysis of the issues and questions driving the news – just what PS has always provided. Subscribe now and save $50 on a new subscription.
Subscribe Now
يجدر بالذكر هنا أن كيسنجر لا يستحق كل هذا الفضل الذي نسبه لنفسه مرارا وتكرارا عن تلك الإنجازات؛ فقد نادي نيكسون بالانفتاح على الصين من قبل أن يصبح رئيسا في عام 1969. على أية حال، ربما يعتقد بوتن أنه استنسخ الانقلاب الدبلوماسي الأميركي، ظانًا فيما يبدو أنه قد ضمن حليفا لا يُقدر بثمن في صراعه ضد الغرب بتعميق العلاقات مع الصين.
لكن التجافي بين الصين والولايات المتحدة آخذ في الاستفحال لمدة تقترب من عقد الآن ــ وهو اتجاه تسبب الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب في تسارعه، ولم يفعل الرئيس الحالي جو بايدن إلا القليل لتداركه. وفي ظل العداوة المتنامية مع الغرب، فإن الصين هي التي كانت في احتياج إلى استمالة روسيا إلى جانبها، وليس العكس ــ وليست كشريك متكافئ.
ورغم الترنيمة التي ترددها الصين كثيرا بشأن قدسية السيادة الوطنية للدول وسلامة أراضيها، فمن المؤكد أنها دعمت الآن بشكل فعال تعزيزات بوتن العسكرية على طول الحدود الأوكرانية، بعد أن حثت الغرب على أن يأخذ "المخاوف الأمنية" لروسيا مأخذ الجد، وأكدت معارضتها لتوسع الناتو. غير أن هذا قد لا يعني بالضرورة أن الصين ستساند روسيا في أي صراع مع الولايات المتحدة أو الناتو.
بدلا من ذلك، بادر شي إلى اتخاذ التدابير اللازمة لمحاصرة روسيا داخل دائرة الاعتماد على الصين كدولة شبه تابعة لها. وقد اختار بوتن الاندفاع بلا تفكير للسقوط في هذا الفخ، معتقدا أن الشراكة مع شي قد تكون له عونا في صدامه مع الغرب.
أي فرصة يمكن أن تكون أفضل للصين من اقتصاد روسي معزول تماما عن الغرب؟ إن كل الغاز الطبيعي الذي لا يتدفق غربا إلى أوروبا يمكن أن يتدفق شرقا إلى الصين المتعطشة للطاقة، وكل الثروة المعدنية في سيبيريا، التي طلبت روسيا الاستعانة برأس المال والخبرة الغربية لاستغلالها، قد تصير متاحة للصين فقط، وكذا الحال بالنسبة لمشروعات البنية التحتية الكبرى الجديدة في روسيا.
ولا يحتاج أي متشكك في أن شي سيطلق العنان لنفسه لاستغلال عزلة روسيا سوى النظر إلى ما فعله سلفاه، هو جينتاو وجيانج زيمين. فقد بدت العلاقات ودية في مستهل الأمر، حيث وقع بوتن معاهدة صداقة مع الصين عام 2001. ومع عزل روسيا ماليا، قدمت الصين قرضا بستة مليارات دولار في أواخر عام 2004، حتى تتمكن شركة النفط روسنفت المملوكة للدولة الروسية من تمويل شراء أكبر وحدة إنتاج بشركة يوكوس النفطية (وهي الشركة التي نجحت حكومة بوتن في إفلاسها عام 2006).
لكن في عام 2005، وفي تحرك رأى كثيرون أنه مرتبط بشكل مباشر بقرض شراء وحدة الإنتاج في يوكوس، استخدمت الصين نفوذها على روسيا لإرغام الكرملين على إعادة حوالي 337 كيلو مترا مربعا (130 ميلا مربعا) من أراض متنازع عليها، مقابل أن تسحب الصين مطالباتها بأراض أخرى. لكن يبدو أن بوتن يتجاهل نظرة قادة وشعب الصين لروسيا باعتبارها دولة فاسدة سرقت من الأراضي الصينية في القرن التاسع عشر أكثر مما سرقته أي دولة أخرى. قبل عامين فقط، عاينتُ هذا الاحتقار شخصيا، عندما ركبت زورقا عبر نهر آمور من مدينة بلاجوفيشتشينسك الروسية إلى هايهي، وهي بلدة صينية صغيرة، حيث سخر التجار الصينيون المحليون علانية من الروس وهم يبيعونهم الهواتف الرخيصة والفراء المقلدة.
لن تخاطر الصين بما تنعم به من رخاء بتحدي الولايات المتحدة صراحة دفاعا عن روسيا، كما لن تدعم اقتصاد روسيا بالاستثمار بالقدر اللازم لتعويض تأثير العقوبات الضخمة التي سيفرضها الغرب إذا شرع بوتن في غزو أوكرانيا. بدلا من ذلك، ستقدم الصين الحد الأدنى من المساعدة لتمكين روسيا من الصمود في صدامها مع الغرب، وبالتالي تُحول انتباه الغرب عن التحدي الاستراتيجي الذي تمثله الصين ذاتها. ربما يكون ذلك الحد الأدنى من المساعدة الصينية كافيا بالكاد لإبقاء بوتن في الكرملين، وهو كل ما يحرص عليه. لكن سيد الكرملين سيحكم اقتصادا روسيا يُستنزف شيئا فشيئا حتى النضوب.
ترجمة: أيمن أحمد السملاوي Translated by: Ayman A. Al Semellawi
To have unlimited access to our content including in-depth commentaries, book reviews, exclusive interviews, PS OnPoint and PS The Big Picture, please subscribe
At the end of a year of domestic and international upheaval, Project Syndicate commentators share their favorite books from the past 12 months. Covering a wide array of genres and disciplines, this year’s picks provide fresh perspectives on the defining challenges of our time and how to confront them.
ask Project Syndicate contributors to select the books that resonated with them the most over the past year.
موسكو ــ يظن الرئيس الروسي فلاديمير بوتن فيما يبدو أنه بالتوقيع على اتفاق تحالف ظاهري مع الرئيس الصيني شي جين بينج في الرابع من فبراير/شباط الماضي في بكين، قد أنجز خطوة تضاهي الزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون إلى الصين عام 1972. لكن كما كان الاتحاد السوفيتي الخاسر الأكبر من التقارب الصيني الأميركي في عام 1972، فمن المرجح أن ينتهي الأمر بروسيا إلى أن تكون الخاسر الأكبر من اتفاق بوتن-شي الجديد.
كان لقاء نيكسون وماو تسي تونج لحظة محورية في تاريخ الحرب الباردة، حيث فاق تأثيره على مسارها حتى تأثير أزمة الصواريخ الكوبية. ففي ذلك الوقت، كانت العلاقات بين الصين والاتحاد السوفيتي بلغت مستوى من الكدر أعظم كثيرا مما تصور معظم العالم، بما في ذلك غالبية الأمريكيين.
بدأت العلاقات بين العملاقين الشيوعيين في الاضمحلال بدرجة كبيرة بعد "الخطاب السري" الذي ألقاه نيكيتا خروتشوف عام 1956 خلال جلسة مغلقة في إطار مؤتمر الحزب الشيوعي السوفيتي العشرين، الذي ندد فيه بستالين. تسبب هذا الخطاب، مع حملة خروتشوف الأوسع نطاقا لاجتثاث الستالينية، في استفزاز ماو الذي استنكر تلك التصرفات واعتبرها نزعة تحريفية ــ ربما خشية أن يواجه إدانة مماثلة يوما ما.
أدت الاختلافات الأيديولوجية وتباين السياسات إلى انهيار العلاقات السياسية، لتبلغ الخلافات ذروتها بالانقسام الصيني السوفيتي عام 1960. وبعد تسعة أعوام، اشتبكت القوات السوفيتية والصينية في قتال وحشي استمر سبعة أشهر على طول نهر أوسوري، قرب إقليم منشوريا. وتفادى الجانبان بأعجوبة الانجراف إلى حرب شاملة.
عندما توجه نيكسون إلى الصين، كان غرضه استغلال هذا العداء بين القوتين الشيوعيتين الرئيستين في العالم. لكنه لم يتوقع، ولا مستشاره للأمن القومي هنري كيسنجر، مدى النجاح الذي تحقق له. فقد بدا للكرملين الخامل متثاقل الخطى في عهد ليونيد بريجنيف أن الصين قد تحولت إلى المعسكر الآخر في الحرب الباردة.
وعندما وجد بريجنيف نفسه محاصرا على طريقة بسمارك بكابوس مواجهة حرب على جبهتين ضد حلف شمال الأطلسي (الناتو) في الغرب، ودولة صينية حانقة في الشرق، سرعان ما تحمس لفكرة كيسنجر بشأن تحقيق انفراج في العلاقات بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفيتي. بل إنه ذهب لأبعد من ذلك بالتوقيع على اتفاقيات هلسنكي، التي مكنت الغرب من التصدي للاستبداد السوفيتي على أسس تتعلق بحقوق الإنسان.
HOLIDAY SALE: PS for less than $0.7 per week
At a time when democracy is under threat, there is an urgent need for incisive, informed analysis of the issues and questions driving the news – just what PS has always provided. Subscribe now and save $50 on a new subscription.
Subscribe Now
يجدر بالذكر هنا أن كيسنجر لا يستحق كل هذا الفضل الذي نسبه لنفسه مرارا وتكرارا عن تلك الإنجازات؛ فقد نادي نيكسون بالانفتاح على الصين من قبل أن يصبح رئيسا في عام 1969. على أية حال، ربما يعتقد بوتن أنه استنسخ الانقلاب الدبلوماسي الأميركي، ظانًا فيما يبدو أنه قد ضمن حليفا لا يُقدر بثمن في صراعه ضد الغرب بتعميق العلاقات مع الصين.
لكن التجافي بين الصين والولايات المتحدة آخذ في الاستفحال لمدة تقترب من عقد الآن ــ وهو اتجاه تسبب الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب في تسارعه، ولم يفعل الرئيس الحالي جو بايدن إلا القليل لتداركه. وفي ظل العداوة المتنامية مع الغرب، فإن الصين هي التي كانت في احتياج إلى استمالة روسيا إلى جانبها، وليس العكس ــ وليست كشريك متكافئ.
ورغم الترنيمة التي ترددها الصين كثيرا بشأن قدسية السيادة الوطنية للدول وسلامة أراضيها، فمن المؤكد أنها دعمت الآن بشكل فعال تعزيزات بوتن العسكرية على طول الحدود الأوكرانية، بعد أن حثت الغرب على أن يأخذ "المخاوف الأمنية" لروسيا مأخذ الجد، وأكدت معارضتها لتوسع الناتو. غير أن هذا قد لا يعني بالضرورة أن الصين ستساند روسيا في أي صراع مع الولايات المتحدة أو الناتو.
بدلا من ذلك، بادر شي إلى اتخاذ التدابير اللازمة لمحاصرة روسيا داخل دائرة الاعتماد على الصين كدولة شبه تابعة لها. وقد اختار بوتن الاندفاع بلا تفكير للسقوط في هذا الفخ، معتقدا أن الشراكة مع شي قد تكون له عونا في صدامه مع الغرب.
أي فرصة يمكن أن تكون أفضل للصين من اقتصاد روسي معزول تماما عن الغرب؟ إن كل الغاز الطبيعي الذي لا يتدفق غربا إلى أوروبا يمكن أن يتدفق شرقا إلى الصين المتعطشة للطاقة، وكل الثروة المعدنية في سيبيريا، التي طلبت روسيا الاستعانة برأس المال والخبرة الغربية لاستغلالها، قد تصير متاحة للصين فقط، وكذا الحال بالنسبة لمشروعات البنية التحتية الكبرى الجديدة في روسيا.
ولا يحتاج أي متشكك في أن شي سيطلق العنان لنفسه لاستغلال عزلة روسيا سوى النظر إلى ما فعله سلفاه، هو جينتاو وجيانج زيمين. فقد بدت العلاقات ودية في مستهل الأمر، حيث وقع بوتن معاهدة صداقة مع الصين عام 2001. ومع عزل روسيا ماليا، قدمت الصين قرضا بستة مليارات دولار في أواخر عام 2004، حتى تتمكن شركة النفط روسنفت المملوكة للدولة الروسية من تمويل شراء أكبر وحدة إنتاج بشركة يوكوس النفطية (وهي الشركة التي نجحت حكومة بوتن في إفلاسها عام 2006).
لكن في عام 2005، وفي تحرك رأى كثيرون أنه مرتبط بشكل مباشر بقرض شراء وحدة الإنتاج في يوكوس، استخدمت الصين نفوذها على روسيا لإرغام الكرملين على إعادة حوالي 337 كيلو مترا مربعا (130 ميلا مربعا) من أراض متنازع عليها، مقابل أن تسحب الصين مطالباتها بأراض أخرى. لكن يبدو أن بوتن يتجاهل نظرة قادة وشعب الصين لروسيا باعتبارها دولة فاسدة سرقت من الأراضي الصينية في القرن التاسع عشر أكثر مما سرقته أي دولة أخرى. قبل عامين فقط، عاينتُ هذا الاحتقار شخصيا، عندما ركبت زورقا عبر نهر آمور من مدينة بلاجوفيشتشينسك الروسية إلى هايهي، وهي بلدة صينية صغيرة، حيث سخر التجار الصينيون المحليون علانية من الروس وهم يبيعونهم الهواتف الرخيصة والفراء المقلدة.
لن تخاطر الصين بما تنعم به من رخاء بتحدي الولايات المتحدة صراحة دفاعا عن روسيا، كما لن تدعم اقتصاد روسيا بالاستثمار بالقدر اللازم لتعويض تأثير العقوبات الضخمة التي سيفرضها الغرب إذا شرع بوتن في غزو أوكرانيا. بدلا من ذلك، ستقدم الصين الحد الأدنى من المساعدة لتمكين روسيا من الصمود في صدامها مع الغرب، وبالتالي تُحول انتباه الغرب عن التحدي الاستراتيجي الذي تمثله الصين ذاتها. ربما يكون ذلك الحد الأدنى من المساعدة الصينية كافيا بالكاد لإبقاء بوتن في الكرملين، وهو كل ما يحرص عليه. لكن سيد الكرملين سيحكم اقتصادا روسيا يُستنزف شيئا فشيئا حتى النضوب.
ترجمة: أيمن أحمد السملاوي Translated by: Ayman A. Al Semellawi