7d3ec00446f86f480f00ca00_pa3658c.jpg Paul Lachine

إما الفشل الذريع أو النجاة

برلين ـ أثناء عودتي إلى أوروبا مؤخراً بعد رحلة استغرقت ستة أيام إلى الولايات المتحدة، وجدت نفسي أتساءل لأول مرة، بينما كنت أطالع الصحف حول الأزمة الأيرلندية الأخيرة، ما إذا كان اليورو ـ وبالتالي الاتحاد الأوروبي ـ قد يُمنى بالفشل. الحق أن هذا قد يحدث، لأنه الاتحاد الأوروبي في الأمد البعيد لن يتمكن من الصمود في ظل تضارب المصالح وعملية "إعادة التأميم" التي أسفر عنها هذا التضارب في مختلف البلدان الأعضاء، ومن دون تكبد أية أضرار جسيمة.

في ذروة الأزمة الأيرلندية ـ وهي في الأساس أزمة ثقة في استقرار البنوك وفي قوة وكفاءة الزعامة السياسية الأوروبية ـ كان قادة أوروبا يمسكون بخناق بعضهم البعض علنا. ورغم أن هدفهم المعلن يتلخص في إنقاذ اليورو، فإن قادة الحكومات المشاركة انتهوا إلى تحقيق العكس تماما، حيث تسببوا في المزيد من العصبية والتقلب في الأسواق المالية، الأمر الذي أدى بالتالي إلى تفاقم مشاكل أيرلندا.

وقدمت ألمانيا إسهامها الخاص في تفاقم الأزمة من خلال إطلاق مناقشة عامة حول إشراك البنوك في تحمل الخسائر بداية من عام 2013. ولكن لماذا تدور مثل هذه المناقشة الآن بالتحديد، وفي خضم الأزمة الأيرلندية؟ الإجابة على هذا التساؤل تظل سراً مكتوماً في قلب المستشارة أنجيلا ميركل. والأرجح أن هذه المناقشة كانت مدفوعة باعتبارات سياسية محلية. والواقع أن المطالبة بمشاركة البنوك اكتسبت شعبية كبيرة في ألمانيا ـ ولهذا ما يبرره ـ خلافاً لحزمة إنقاذ أيرلندا. بيد أن تنفيذ هذه السياسة الآن سوف يكون أكثر جدوى ونفعاً من الإعلان عنها قبل عامين من التاريخ المزمع لتنفيذها.

حيثما ننظر الآن فسوف نجد أن ثمن أي شيء في أوروبا بات يُحسب اليوم باليورو وكسور اليورو، وليس بالعملة السياسية والتاريخية كما كنت الحال فيما مضى. والواقع أن ألمانيا بشكل خاص ـ أكبر دول أوروبا وأقواها اقتصادا ـ تبدو وكأنها سقطت ضحية لفقدان الذاكرة التاريخية. أما فكرة أن مصلحة ألمانيا الوطنية تملي عليها تجنب أي شيء قد يؤدي إلى عزلها داخل أوروبا، وأن المهمة بالتالي تتلخص في خلق "ألمانيا أوروبية" وليس "أوروبا ألمانية"، فمن الواضح أنها أصبحت ذكرى من الماضي.

لا شك أن قادة ألمانيا يعتبرون أنفسهم حتى وقتنا هذا من أنصار أوروبا ويرفضون مثل هذه الانتقادات بكل استياء وغضب. ولكن لم يعد من الممكن تجاهل أو إغفال التغير الجوهري الذي طرأ على الاستراتيجية الألمانية في التعامل مع أوروبا. وإذا تحرينا الموضوعية فسوف يتبين لنا أن الاتجاه يسير في الواقع نحو "أوروبا ألمانية"، وهو ما لن ينجح أبدا.

إن فشل اليورو ـ وبالتالي الاتحاد الأوروبي وسوقه المشتركة ـ سوف يُعَد بمثابة الكارثة الأعظم التي تحل على أوروبا بالكامل منذ عام 1945. ومجرد إمكانية الوصول إلى مثل هذه النتيجة ـ على الرغم من الأصوات التي تزعم العكس من قِبَل كافة الأطراف المعنية ـ يعكس انتشار الجهل المتعمد والافتقار إلى الخيال بين رؤساء الدول والحكومات الأوروبية. ولو لم يكن الأمر كذلك لكانوا قد أدركوا أن الأزمة المالية تحولت منذ مدة طويلة إلى أزمة سياسية تهدد وجود الاتحاد الأوروبي ذاته، وبالتالي فإن نجاح أي آلية دائمة لحل الأزمات التي تحل على البلدان الأعضاء المثقلة بالديون، على الرغم من الأهمية الواضحة لهذه الآلية، يتطلب أولاً وجود آلية دائمة لحل الأزمات السياسية.

PS Events: Climate Week NYC 2024
image (24)

PS Events: Climate Week NYC 2024

Watch our Climate Week NYC 2024 event now to hear speakers from across the globe – including Mia Amor Mottley, Prime Minister of Barbados; Gabriel Boric, President of Chile; Jiwoh Abdulai, Minister of Environment and Climate Change of Sierra Leone; and Maisa Rojas Corradi, Minister of the Environment of Chile – discuss climate leadership, development finance, and more.

Watch Now

من الصعب للغاية في ظل الوضع الراهن أن يتمكن اليورو من البقاء. ولكن هذه الآلية الدائمة لحل الأزمات السياسية لا تقل بأي حال عن اتحاد اقتصادي يعمل بشكل جيد. وعلى هذا فإن البدائل لن تخرج عن المضي قدماً في تأسيس اتحاد اقتصادي حقيقي والمزيد من تكامل الاتحاد الأوروبي، أو التقهقر والاكتفاء بمنطقة تجارة حرة والعودة إلى التأميم في مختلف بلدان أوروبا.

إن الاعتقاد في إمكانية تحقيق الاستقرار بالاستعانة بالقواعد والتنظيمات التكنوقراطية وآليات فرض العقوبات فحسب، في منطقة اليورو في ظل اقتصاد متزايد التباين بين مختلف البلدان الأعضاء، هو في واقع الأمر اعتقاد مضلل لا محالة. ذلك أن الاستقرار الحقيقي في منطقة اليورو يستلزم انضباط الاقتصاد الكلي، والذي يتطلب بدوره التكامل السياسي لاتحاد اقتصادي عامل على أفضل وجه. ومن المؤكد أن الحفاظ على العملة الموحدة يتطلب توحيد السياسات الاقتصادية والاجتماعية (مثل السن القانونية للتقاعد)، وابتكار مخططات جديدة للموازنة (سندات اليورو كأداة تحويل)، وآلية استقرار فعّالة.

ولكن كيف من الممكن أن تتحقق هذه الأهداف البعيدة المنال في إطار منطقة اليورو (إلى جانب بلدان الاتحاد الأوروبي غير الأعضاء في منطقة اليورو، والراغبة في الانضمام إليها)؟ ربما كان لزاماً علينا أن ننسى أي تغييرات في المعاهدات في الوقت الراهن.

ولكن اتفاقية الشنجن تعرض علينا بديلاً مناسبا، أو على وجه التحديد الترتيبات بين البلدان الفردية. والواقع أن إلغاء الضوابط الحدودية لم يكن من التفاصيل الصغرى بأي حال من الأحوال، ورغم ذلك فإنه لم يتحقق إلا على أساس من الاتفاقيات بين الحكومية. لماذا إذن لا ينطبق هذا على الاتحاد الاقتصادي أيضا؟

إن ما تحتاج إليه منطقة اليورو الآن ليس تكرار معاهدة ماستريخت، بل شكل من أشكال مبادرة شميت/جيسكار. والواقع أن مثل هذا النوع من المبادرات يتطلب دعم ألمانيا وفرنسا، وذلك لأن حل الأزمة غير ممكن في غيابهما. ونظراً لما يتمتع به البلدان من نفوذ اقتصادي وسياسي، فإن ألمانيا وفرنسا يمثلان زعامة شمال منطقة اليورو وجنوبها على التوالي. لذا فإن كلاً من البلدين قادر على رعاية التسوية التي لا غنى عنها بين البلدان الأقوى والأضعف في منطقة اليورو.

ويتخلص دور فرنسا في هذا السياق في ضمان عدم سقوط البلدان الأضعف ضحية للانكماش الدائم. أما ألمانيا فيتعين عليها أن تضطلع بدور الضامن للاستقرار. ولكن يتعين على البلدين معاً أن يدشنا الخطوة الأولى نحو الاتحاد الاقتصادي، وهذا يستلزم أن يكون كل من البلدين راغباً في ذلك في المقام الأول.

وسيكون لزاماً على ميركل أن تشرح للألمان حقيقة مزعجة مفادها أن ثمن الاحتفاظ باليورو سوف يشتمل حتماً على وجود اتحاد اقتصادي واتحاد تحويل، كما يتعين على الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي أن يوضح للفرنسيين ثمن الاتحاد الاقتصادي والاستقرار الحقيقي. ولا شك أن المجازفة السياسية التي ينطوي عليها هذا الأمر ليست بسيطة على الإطلاق، ولكن البديل ـ فشل اليورو ـ أمر غير مقبول لأي من البلدين.

إن أي زعيم سياسي لأي من بلدان منطقة اليورو، يفكر أولاً وقبل كل شيء في إعادة انتخابه، لابد وأن يدرك أنه سوف يواجه احتمال الفشل في التصدي لهذا التحدي التاريخي. ولكن الأولويات الأوروبية لابد وأن تكون الشغل الشاغل في هذه الأزمة ـ حتى ولو كان الثمن خسارة المنصب. ومن ناحية أخرى فإن إطلاق مثل هذه المبادرة التاريخية من شأنه، مقارنة بأي مناورة تكتيكية جبانة، أن يزيد إلى حد كبير من فرص الساسة في إعادة انتخابهم في وقت لاحق.

ولكن أوروبا لا تعاني من نقص في الساسة. والمطلوب بشكل بالغ الإلحاح الآن رجال دولة حقيقيين وسيدات دولة حقيقيات.

https://prosyn.org/r8U7DTear