Terzi2_Getty Images Getty Images

اقتصاد سياسي مناخي

بروكسل ــ يفرض تغير المناخ تساؤلات محيرة ليس فقط حول ما قد تدين به البلدان الغنية التي تطلق مستويات عالية من الانبعاثات الغازية الضارة للبلدان الفقيرة الأقل نموا، بل وأيضا حول ما يدين به من هم في مواقع السلطة اليوم لأجيال المستقبل. كيف ينبغي لنا أن نبحر عبر المقايضات المفهومة بين التلوث والحق في ملاحقة أهداف التنمية الاقتصادية، أو بين المكاسب الحالية ومكاسب المستقبل؟ والأهم من ذلك، أي أنظمة الحكم أنسب لمواجهة هذا التحدي؟

من منظور أولئك الذين يريدون أن يروا استجابة أقوى كثيرا لتغير المناخ، من السهل إحصاء كل الطرق التي قصرت بها الديمقراطية في الوفاء بوعدها. لنتأمل على سبيل المثال حال الولايات المتحدة، وهي واحدة من أكبر مصادر انبعاثات غازات الانحباس الحراري الكوكبي في التاريخ. وفقا لتقرير صادر عن مركز بيو للأبحاث في يونيو/حزيران 2020، يقول ثلثا الأميركيين إنهم قلقون بشأن تغير المناخ ويودون لو تبذل الحكومة الفيدرالية المزيد من الجهد لمعالجة هذه المشكلة. وفي وقت لاحق من ذلك العام، انتخب الشعب الأميركي رئيسا ديمقراطيا يَـعِـد ببرنامج قوي في ما يتصل بسياسة المناخ.

ولكن بسبب مقاومة عضو ديمقراطي في مجلس الشيوخ من ذوي الميول المحافظة، استغرق الأمر عاما ونصف العام من المفاوضات الـمُـنهِـكة لتقديم أي تشريع يتعلق بالمناخ على الإطلاق، وقد تتعرض بعض هذه المكاسب للخطر قريبا إذا عانى الديمقراطيون من ذوي الوعي المناخي من خسائر جسيمة في انتخابات التجديد النصفي هذا العام.

علاوة على ذلك، في حكمها الصادر في قضية وست فيرجينيا ضد هيئة حماية البيئة في وقت سابق من هذا العام، قيدت الأغلبية العظمى المحافظة في المحكمة العليا سلطة الفرع التنفيذي في صنع السياسات المناخية. الأسوأ من هذا أن نظام الحكم اللامركزي في أميركا يعني أنه حتى في حال الموافقة على الاستثمارات الخضراء على المستوى الفيدرالي، يظل من الممكن إخراجها عن مسارها على مستوى الولايات. وفي مواجهة المعارضة الصريحة للمشاريع الجديدة ــ سواء مزارع الرياح أو مواقع التنقيب عن المعادن المستخدمة في تصنيع المركبات الكهربائية ــ سيستسلم المسؤولون على مستوى الولايات أو المدن غالبا لشعار "ليس في فناء منزلي الخلفي".

على النقيض من ذلك، في حين تحرز أميركا تقدما ضعيفا، أثبتت دولة خاضعة لحكم الفرد المطلق مثل الصين قدرتها على زيادة سعة توليد طاقة الرياح البحرية في غضون عام واحد بمقدار أكبر مما حققته أي دولة أخرى في غضون خمس سنوات. ونظرا للخطوات الهائلة التي قطعتها في نشر البنية الأساسية لطاقة الرياح والطاقة الشمسية، أصبحت الصين على الطريق لتحقيق أهدافها في مجال الطاقة المتجددة لعام 2030 قبل خمس سنوات من الموعد المحدد. ومن خلال قمع المعارضة المحلية لعمليات الاستخراج الشديدة التلويث، تستطيع الصين أن تثبت نفسها أيضا كرائدة عالمية في مجال استخراج المعادن الأرضية النادرة التي تشكل ضرورة أساسية للكهربة والتحول الأخضر في عموم الأمر.

نداء الغواية

Secure your copy of PS Quarterly: Age of Extremes
PS_Quarterly_Q2-24_1333x1000_No-Text

Secure your copy of PS Quarterly: Age of Extremes

The newest issue of our magazine, PS Quarterly: Age of Extremes, is here. To gain digital access to all of the magazine’s content, and receive your print copy, subscribe to PS Premium now.

Subscribe Now

نظرا لمثل هذه التناقضات، ربما لا يكون من المستغرب أن تفقد الديمقراطية حظوتها بين المواطنين في مختلف أنحاء العالم. هذه هي الحال بشكل خاص بين المنتمين إلى جيل الألفية الواعين مناخيا وأبناء الجيل زد (جيل الإنترنت)، الذين ينظرون إلى الديمقراطية على نحو متزايد باعتبارها عاجزة عن تسليم الحلول لأزمة المناخ. وكما حذر أليكسيس دي توكفيل في كتابه "الديمقراطية في أميركا"، "يقدم الاستبداد نفسه غالبا على أنه الـمُـصـلِـح لجميع العلل التي يعاني منها البشر، والداعم للحقوق العادلة، والمدافع عن المظلومين، والـمُـنشـئ للنظام".

لكن الشباب لا يشعرون بخيبة الأمل إزاء افتقار الديمقراطية الواضح للقدرة على الاستجابة فحسب، بل يستسلمون لإغواء الحجج المستندة إلى القيم الأخلاقية لصالح "الاستبدادية البيئية"، التي ينظر إليها كثيرون على أنها شكل أرقى من أشكال الحكم في عصر تغير المناخ. وعلى هذا فقد زعم عالِـم الأرض الشهير جيمس لوفلوك في عام 2010 أن "حتى أفضل الديمقراطيات تتفق على أن الديمقراطية يجب أن تُـحال إلى وضع الانتظار في حال اقتراب حرب كبرى. ويخالجني شعور قوي بأن تغير المناخ قد يكون قضية لا تقل خطورة عن الحرب. وقد يكون من الضروري تعليق الديمقراطية لبعض الوقت".

ثم اكتسبت الحجة لصالح الاستبدادية البيئية المزيد من القوة منذ اندلاع جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19)، التي دفعت العديد من الديمقراطيات الليبرالية إلى إعلان حالة الطوارئ وتعليق بعض الحريات الأساسية، وخاصة قدرة المواطنين على التنقل والتجمع بحرية. وفي العديد من البلدان، وخاصة في المرحلة المبكرة من الجائحة، جرى تقسيم الوظائف بين "أساسية" و"غير أساسية"، مع السماح للمنتمين إلى الفئة الأولى بمواصلة العمل، في حين اضطر المنتمون إلى الفئة الثانية إلى التوقف الفوري. يود أنصار الاستبدادية البيئية لو يروا مثل هذا التخطيط المركزي موضع التنفيذ للتمييز بين الأنشطة الـمُـلَـوِّثة وغير الـمُـلَـوِّثة.

علاوة على ذلك، حتى في الولايات المتحدة ــ الدولة الرأسمالية بامتياز ــ استخدم الرئيس الأميركي جو بايدن قانون الإنتاج الدفاعي الصادر عام 1950 لتسريع إنتاج اللقاح، ليتهرب فعليا من الالتزام الصارم بمبادئ الملكية الخاصة، وحرية إقامة المشاريع، والنتائج المحددة من قِـبَـل السوق ــ وجميعها أمور تصب في المصلحة المشتركة للبلد. لماذا لا نفعل ذات الشيء في إدارة الانتقال إلى اقتصاد الصِـفر الصافي؟ قد يحدث هذا. فقد أعلن البرلمان الأوروبي، وكندا، واليابان، ونيوزيلندا، وكوريا الجنوبية بالفعل حالة الطوارئ المناخية، وقبل الاختراق التشريعي هذا الصيف، كان بايدن تحت الضغط لحمله على فعل ذات الشيء.

مثلها كمثل المناقشات الاقتصادية الكبرى الأخرى الدائرة في أيامنا هذه، تحمل هذه المناقشة نكهة سبعينيات القرن العشرين. بالإضافة إلى ارتفاعات أسعار النفط والركود التضخمي، انطلقت الحركة البيئية الحديثة بكامل طاقتها. فبعد كتاب راشيل كارسون الصادر في عام 1962 بعنوان "الربيع الصامت"، نجحت مطبوعات انتشرت على نطاق واسع مثل "القنبلة السكانية" للكاتب بول إرليش عام 1968، وتقرير "حدود النمو" الصادر عن نادي روما في عام 1972 (الذي أصدر إنذارا مبكرا للغاية بشأن الطبيعة المحدودة التي تتسم بها الموارد على كوكب الأرض) في إقناع عدد كبير من الناس بأن مسار المجتمع الحديث يستلزم إنشاء نظام قادر على إجبار الناس على العيش المستدام، بما في ذلك خفض معدلات المواليد.

الواقع أن مصطلح "الاستبدادية البيئية" ذاته صاغه العالِـم السياسي والبيئي ويليام أوفولس في مقال نُـشِـر له في عام 1973 بعنوان "الوحش أو عالَـم النسيان؟" (Leviathan or Oblivion?). نظر أوفولس إلى التلوث، والتدهور البيئي، وغير ذلك من المشكلات البيئية، على أنها "مآسي المشاعات" التي لن تتمكن البشرية من التغلب عليها من خلال التعاون، وعلى هذا فقد خلص إلى أن "الأساس المنطقي الذي يسمح للحكومة باكتساب سلطات قسرية شديد الإقناع". (في ذلك الوقت، برز الاتحاد السوفييتي، وليس الصين، باعتباره البديل للرأسمالية الليبرالية الغربية؛ لكن الصين أيضا استندت إلى هذه الأدبيات عندما أسست "سياسة الطفل الواحد").

الجدال الأزلي

لا يقتصر الإغواء الاستبدادي على دعاة حماية البيئة، بطبيعة الحال. الواقع أن فكرة أن حالات الطوارئ تستلزم اتخاذ تدابير استثنائية تضرب بجذور عميقة في التاريخ. في الفترة الجمهورية في روما القديمة (من 509 إلى 27 قبل الميلاد)، كان من الممكن تعليق الشكل العادي للحكم لحل مشكلات بعينها (عادة لشن حرب أو قمع تمرد). أثناء هذه الفواصل الزمنية، كان الدكتاتور (وهو لفظ يرجع إلى أصول لاتينية) يُـنَـصَّـبَ بسلطة كاملة تخول له تجاوز القيود السياسية العادية. ورغم أن ذلك الرمز كان من حيث المبدأ مقيدا بنوع من حدود الولاية، فقد أعلن يوليوس قيصر نفسه دكتاتورا أبديا، فأرسى بذلك الأساس لانزلاق روما في النهاية من جمهورية إلى إمبراطورية. في ذلك الوقت، كانت الجمهورية تُـعَـد أشد ضعفا وأقل استقرارا من أن تتمكن من التعامل مع تحديات إدارة الأراضي الممتدة من البرتغال الحديثة إلى سوريا.

على نحو مماثل، في كتاب "الجمهورية" أعرب أفلاطون بكلمات مشينة عن ازدرائه للديمقراطية، التي اعتبرها المرحلة الأخيرة على الطريق إلى حُـكم الطغيان والاستبداد. عندما يُـعـطى الأفراد من الحرية قدرا أكبر ما ينبغي لهم، فإنهم يستسلمون لرغبات تافهة لا تشبع تجعلهم عُـرضة بدرجة كبيرة للغوغائية الشعبوية. كان أفلاطون يفضل إلى حد كبير الاستبدادية الـمُـتَـناوِبة من قِـبَـل الملوك الفلاسفة ــ أي الطغاة والتكنوقراط الـخَـيِّـرِين.

بعد قرون من الزمن، أعرب الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز أيضا عن تفضيله للحلول الاستبدادية. في كتابه الصادر عام 1651 بعنوان "الوحش" (Leviathan)، وصف هوبز "حالة طبيعية" افتراضية حيث يسعى الجميع بلا هوادة إلى اكتساب السلطة والثروة. ولأن حتى أضعف رجل، يستطيع من خلال الحيلة والمكر أو القتل أن يسرق ممتلكات الأقوى، فلن يكون أحد في مأمن. لإنهاء حرب تدمير الذات التي يشنها الجميع ضد الجميع، يحول الأفراد عن طيب خاطر بعض سيادتهم الشخصية إلى دولة مقتدرة. هذا هو "الوحش" في عمل ماكس أوفولس: ترى الاستبدادية البيئية في تعليق الديمقراطية ضرورة لمنع الحضارة من الانهيار تحت وطأة تغير المناخ الكارثي.

لكن أفكار هوبز لم تـمر دون أن يُـطعَـن فيها، بل استخدمها العديد من مفكري عصر التنوير اللاحقين لإبراز فِـكرهم عن طريق المغايرة. في فرنسا، أَكَّـدَ فولتير على أهمية الحريات المدنية والتسامح، وقَـدَّمَ مونتسكيو رؤيته الأساسية لمبدأ الفصل بين السلطات (الذي عمل جيمس ماديسون وواضعو الدستور الأميركي جادين على تطويره). وفي بريطانيا، عمل جون لوك، "أبو الليبرالية"، على إعادة صياغة دور العاهل باعتباره مقتصرا في الأساس على حماية حقوق الملكية وإنفاذها، في حين ظهر ديفيد هيوم كمدافع قوي عن الدستورية وسلطة العقل.

تستند هذه المناظرات القديمة في الفلسفة السياسية إلى مفاهيم مختلفة عن الطبيعة البشرية. ففي حين يُــبـدي المفكرون الليبراليون من عصر التنوير في عموم الأمر قدرا أعظم من الإيمان بالبشر باعتبارهم فاعلين عقلانيين قادرين على تحديد مصالحهم والسعي إلى تحقيقها، افترض أولئك الذين يقدمون رؤية أكثر استبدادية أن الناس لا يمكن الثقة ببساطة في قدرتهم على التصرف بذكاء بما يخدم مصالحهم، ناهيك عن مصالح المجتمع. ومن ثَـمّ، بين أنصار الاستبدادية البيئية، يشكك لوفلوك في كون البشر "أذكياء بالقدر الذي يسمح لهم بالتعامل مع أوضاع معقدة مثل تغير المناخ"، بينما يحذر أوفولس من أن "إصلاح الفاسدين مهمة بالغة المشقة".

لحسن الحظ، كانت الـغَـلَـبة للقيم الليبرالية، بدءا من القرن الثامن عشر، وأصبحت تشكل حجر الأساس الذي يقوم عليه دستور الولايات المتحدة والثقافة الغربية في عموم الأمر. على مدار القرن الماضي، تفوقت الديمقراطيات الليبرالية بدرجة كبيرة على الأنظمة الاستبدادية في ما يتصل بالنمو الاقتصادي، ومستويات المعيشة، والقوة العسكرية. وفقا للبيانات التاريخية التي جمعها الخبير الاقتصادي أنجوس ماديسون خلال الفترة من 1820 إلى 2000، ارتفع نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي في الغرب بما يزيد على ستة عشر ضعفا، مقارنة بزيادة أقل من ستة أضعاف في بقية العالم.

في حين عملت أفكار التنوير مثل مبدأ الحقوق الطبيعية وكرامة الفرد على خلق الأساس الفلسفي لمفهوم " المساعدات الخارجية"، فإن الوفرة الهائلة التي حققتها الديمقراطيات الغربية أثناء فترة التسارع العظيم بعد الحرب حولتها إلى أكبر المزودين لمساعدات التنمية في الخارج.

كان النموذج الغربي ناجحا إلى الحد الذي جعل كثيرين بعد انهيار الاتحاد السوفييتي يفترضون أن القيم الليبرالية كان قدرها أن تنتشر على نحو منقطع النظير في مختلف أنحاء العالم. ولكن منذ ذلك الحين، أصبحت آفاق الديمقراطية الليبرالية والرأسمالية قاتمة حيث طغت الإخفاقات والتجاوزات الحديثة من جانب كل منهما على سجلهما التاريخي الأطول من النجاحات.

ضعف الرجال الأقوياء

من الواضح أن إنقاذ النموذج الرأسمالي الليبرالي الديمقراطي سيكون ضروريا لإدارة أزمة المناخ وتلبية مطالب العدالة المناخية. وحتى لو نحينا جانبا الاعتبارات الأخلاقية، مثل أهمية الحرية كقيمة إنسانية، يتبين لنا أن الحجج التي تُـسـاق لصالح الاستبدادية البيئية مخطئة من جوانب متعددة.

فهي أولا تستند إلى فهم خاطئ لتغير المناخ. صحيح أن حتى الديمقراطيات الليبرالية التي تعمل على نحو طيب ربما تختار في ظل ظروف معينة تعليق بعض الحريات للتعامل مع مشكلة طارئة، لكن هذه المقارنة بين تغير المناخ والحرب ليست مفيدة. ففي حين تنتهي الحروب في نهاية المطاف، يجب أن تظل سياسات المناخ في محلها إلى أجل غير مسمى. وبدلا من كونها حالة استثنائية، يجب أن تمثل الوضع الطبيعي الجديد في العقود، إن لم يكن القرون، المقبلة.

كما توضح اتفاقية باريس التي أبرمت عام 2015، يتلخص الهدف الأساسي لأجندة المناخ في خفض الانبعاثات من الغازات المسببة للانحباس الحراري الكوكبي بخطوات سريعة وعلى نطاق يكفي للحد من ارتفاع درجات الحرارة العالمية بما لا يتجاوز درجتين مئويتين ــ والأفضل درجة واحدة ونصف الدرجة ــ فوق مستويات ما قبل العصر الصناعي. ولكن نظرا لتركيز الانبعاثات التي جرى ضخها بالفعل إلى الغلاف الجوي منذ الثورة الصناعية، ارتفعت درجة حرارة الكوكب بنحو 1.1 درجة مئوية، في المتوسط. وعلى هذا، فبينما تتطلب المشكلة التحرك العاجل، فمن غير الممكن وصفها حقا بأنها "حالة طوارئ"، لأنها ليست مفاجئة أو غير متوقعة أو مؤقتة. وحتى لم تمكنا من إزالة الكربون من وسائل النقل، وتوليد الكهرباء، وغير ذلك من مصادر الانبعاثات الشائعة، فسوف يكون لزاما علينا إلى الأبد أن نراقب عن كثب توازن العوامل التي تحافظ على صحة المناخ الذي نعتمد عليه جميعا.

ولأن تغير المناخ ليس حالة طوارئ بالمعنى الدقيق لهذا المصطلح، فإن تعليق الحقوق والحريات الديمقراطية على هذا الأساس يرقى إلى إلغائها بالكلية. وكل من يشكك في هذا ما عليه إلا أن يتأمل في حالة الاستثناء التي أُعـلِـنَـت لاستيعاب "حرب أميركا على الإرهاب"، والتي أدت إلى مختلف أشكال الانتهاكات لحقوق الإنسان والحقوق المدنية. بعد مرور أكثر من عشرين عاما على هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، لا تزال الولايات المتحدة تفرض رسميا "حالة طوارئ وطنية"، على أساس أن "التهديد الإرهابي مستمر".

المشكلة الثانية الكبرى في مسألة الاستبدادية البيئية هي أنها تستند بإفراط إلى فِـكر مِـثالي طوباوي، وخاصة فكرة مفادها أن أي مشكلة بحجم وتعقيد تغير المناخ لا يمكن حلها إلا إذا تسنى تسليم السلطة إلى جهاز تكنوقراطي يتألف من النخب الجيدة التعليم. وعلى حد تعبير لوفلوك:

"نحن في احتياج إلى عالَـم أكثر سلطوية. لقد تحولنا إلى عالَـم فَـظ تسوده المساواة، حيث يستطيع كل شخص أن يدلي بدلوه. كل هذا جميل للغاية، لكن الأمر لا يخلو من ظروف بعينها ــ اندلاع حرب كمثال نموذجي ــ حيث لا يمكنك أن تفعل ذلك. يجب أن يظل لديك قِـلة من الأشخاص من ذوي السلطة الذين تثق بهم والذين يديرون هذا العالَـم. ويجب أن يكون من الممكن للغاية مساءلتهم أيضا، بطبيعة الحال".

لكن تغير المناخ، كما رأينا للتو، ليس كمثل الحرب، لذا من الصعب أن نتخيل أي شكل من أشكال الـمُـساءلة في ذهن لوفلوك. في الفلسفة السياسية واللغة الشائعة، بوسعنا أن نفهم هذا بشكل أفضل من خلال العبارة الخالدة: "من يراقب المراقبين؟" يتلخص الغرض من اللجوء إلى الاستبدادية البيئية برمته في التغلب على الضوابط الديمقراطية التي يُـنـظَـر إليها على أنها تعرقل العمل الحاسم الفَـعّـال.

المشكلة الثالثة في ما يتصل بالاستبدادية البيئية هي أنها تتوخى عالم ما بعد السياسة، أو تسعى إلى إقامة عالَـم لا سياسي، لصنع السياسات، وكأن هدف التحول الأخضر من الممكن ملاحقته بوصفه مشكلة هندسية خالية من القيمة. لكن مثل هذا المجال من غير الممكن أن يوجد على الإطلاق، لأن اتخاذ أي تدابير تتطلب إصدار قرارات تستند إلى القيمة حول توزيع الأعباء والمكافآت ينطوي على مقايضات حتمية. وحتى هيئات صنع السياسات المستقلة رسميا مثل البنوك المركزية لا تزال في نهاية المطاف مرتبطة بعالم السياسة ــ كما ينبغي لها أن تكون.

هذه أيضا حال حتى أكثر الأنظمة الاستبدادية قَـمـعا. تخضع كل الأنظمة لشكل من أشكال القيود السياسية على الأقل أو عامل مقيد يجبرها على التفكير في السياسات التي ينبغي لها أن تسعى إلى انتهاجها أو تلك التي يجب أن تتجنبها. قد لا تعقد الصين انتخابات، لكن النظام الصيني يدرك أن بقاءه يعتمد على الحفاظ على الشرعية الشعبية، وهو ما فعله من خلال تسليم النمو المستدام وتحسين مستويات المعيشة طوال العقود الثلاثة الأخيرة.

تكمن المشكلة التي تواجه القيادة الصينية في أنها يتعين عليها الآن أن تستمر في ضمان النمو القوي بأي ثمن. أشار بعض المعلقين إلى أن هذه الحتمية كشفت النقاب عن حقيقة مفادها أن النظام الصيني ليس رشيقا أو فَـعّـالا في حل الاختلالات الكبرى بقدر ما يتصور المدافعون عنه. ولأن صناع السياسات في الصين كانوا عازفين عن التخلي عن النمو في الأمد القريب، فقد سمحت الصين بتراكم مشكلات اقتصادية عديدة لسنوات، الأمر الذي جعلها عالقة مع قطاع عقارات شديد الاختلال ومستويات ديون شديدة الارتفاع.

علاوة على ذلك، كما يزعم الخبير الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل أمارتيا سِـن، تُـعَـد الأنظمة الاستبدادية أكثر ميلا إلى التشبث بسياسات التدمير الذاتي، في حين تميل الديمقراطيات إلى كونها أفضل في تصحيح الذات، نظرا لانتخاباتها المتكررة، وحرية التعبير والتجمع والصحافة. من الأمثلة الحديثة على ذلك سياسة خفض الإصابات بفيروس كورونا إلى الصِـفر التي تنتهجها الصين. تسببت عمليات الإغلاق المتكررة في مراكز رئيسية مثل شنغهاي في إعاقة اقتصاد الصين، ورغم أن أغلب خبراء الصحة الدوليين اعتبروا هذه الاستراتيجية "غير مستدامة"، فإن ارتباطها الوثيق بالرئيس شي جين بينج كفل استمرارها. وإذا عكس النظام مساره الآن، فإنه بهذا يعترف فعليا بأنه كان على خطأ.

فضائل الديمقراطية المنسية

بعيدا عن أمثلة بعينها لنجاحات وإخفاقات الحكم في الولايات المتحدة والصين، لم تجد الدراسات التجريبية أيضا أي دليل على أن الأنظمة الاستبدادية أفضل من الديمقراطيات في استنان سياسات مناخية سليمة. الواقع أن تسعة من أفضل عشرة بلدان أداء على مؤشر أداء تغير المناخ لعام 2021 تنتمي إلى المعسكر الديمقراطي، حيث تقود الدول الإسكندنافية الطريق (وتظل هذه هي الحال حتى بعد وضع الانبعاثات في الخارج في الحسبان).

لا يخلو الأمر أيضا من أدلة تجريبية تشير إلى أن الديمقراطيات أكثر ميلا إلى التعاون الدولي مقارنة بالأنظمة الاستبدادية، ونحن نعلم أن التعاون الدولي ضروري لتقليل الانبعاثات وضمان أي شكل من أشكال العدالة المناخية بين البلدان التي تطلق مستويات عالية من الانبعاثات والأخرى التي تطلق مستويات منخفضة منها.

لكن لعل الحجة الأكثر قوة ضد الاستبدادية البيئية تتعلق بالإبداع ــ الذي قد يكون العامل الأشد تأثيرا في تمكين البشرية من تحقيق أهداف باريس. وكما يوضح مُـحِـب الخير بِـل جيتس في كتابه "كيف نتجنب كارثة مناخية"، ففي حين لا تحتاج بعض التكنولوجيات الخضراء (مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح) إلا إلى توسيع نطاق انتشارها، فلا يزال لزاما علينا أن نعمل على تطوير بدائل خضراء قابلة للتوسع لقطاعات "يصعب تخفيف الاعتماد عليها" مثل الطيران، والشحن البحري، والسمنت، والصلب. وبما أننا لن نتخلى فجأة عن أي من هذه العناصر الجوهرية التي تقوم عليها حضارتنا الحديثة، فإن الخيار الوحيد يتمثل في ابتكار طريقنا للخروج من هذه المشكلة.

مرة أخرى، الديمقراطية الليبرالية هي النظام الأفضل لتحقيق هذه الغاية. وكما أوضحت بإسهاب في كتابي الأخير، "نمو من أجل الخير"، من غير المرجح أن تتمكن الأنظمة التي تحد بشكل منهجي من الحريات الشخصية وتحط من قدر الثروة الفردية والنجاح من اجتذاب المواهب الدولية والاحتفاظ بها، بما في ذلك العلماء ورواد الأعمال. تاريخيا، أثبتت حماية الملكية الخاصة بفرض سيادة القانون كونها العامل الأكثر أهمية في تعزيز اختراع، وتطوير، ونشر تكنولوجيات جديدة. وفي غيابها، ما كانت أغلب الأفكار الجديدة المبدعة لتنطلق أبدا.

قاد الإبداع التكنولوجي تطور الاقتصاد السياسي الغربي لقرون من الزمن. وكما يوضح المؤرخ الاقتصادي جويل موكير في كتابه "ثقافة النمو"، فإن أفكار التنوير، مثل القيود الرسمية المفروضة على السلطة التنفيذية، وحرية التعبير، والتسامح الديني، والحقوق القانونية الأساسية، وحُـرمة الملكية، تتشابك جميعها على نحو لا ينفصم مع الزخم التكنولوجي المتسارع والتنمية الاقتصادية في أوروبا من القرن الثامن عشر فصاعدا.

أخيرا، هناك أيضا أبحاث أكاديمية تُـظـهِـر أن الديمقراطيات أكثر ملاءمة للتكيف مع تغير المناخ، والذي تحول سريعا إلى أولوية قصوى نظرا لحتمية تزايد الانحباس الحراري الكوكبي في العقود المقبلة. سوف تتطلب الظروف الجديدة والمتغيرة جذريا المزيد من المرونة، والإبداع، والتجريب على المستوى المحلي، وكل هذا لا تجيده الأنظمة الاستبدادية المركزية. كما لاحظ الراحل كارل بوتزر من جامعة تكساس، فإن التاريخ الطويل من الانهيار الحضاري يُـظـهِـر أن "التغيير يصعب فرضه في الدكتاتوريات التي تُـخـضِـع مواطنيها بالقوة، وإخراس المعارضة، وخنق روح المبادرة. وتتمثل أفضل طريقة لمواجهة الأزمات الكبرى في تعزيز مرونة وتماسك أغلب الطبقات أو المكونات الاجتماعية في إطار نظام حكم بعينه أو منطقة بعينها".

مخاطر كبرى

نحن نعيش فترة من انعدام الثقة وخيبة الأمل المتزايدة، وخاصة بين الشباب الذين لم يعرفوا قَـط كيف تكون الحياة في ظل القمع الاستبدادي (أو في عالم لا تكتنفه مخاطر تغير المناخ). إن موجات الحر الشديدة، والفيضانات، وحرائق الغابات، والجفاف، وغير ذلك من الكوارث التي شهدها هذا العام ليست سوى عينة مما ينتظرنا مع استمرار متوسط درجات الحرارة العالمية في الارتفاع نحو عتبة الدرجة ونصف الدرجة المئوية، ثم أبعد من ذلك في الأرجح. على وجه الخصوص، في غياب جهود التكيف الفَـعّـالة، من المرجح أن تصبح بعض أجزاء من العالم غير صالحة للسكنى، وهو ما قد يدفع حتى المزيد من اليائسين إلى البحث عن حلول قوية.

مع استمرار كوكب الأرض في اكتساب المزيد من الحرارة، يزداد الجدال الدائر حول الاقتصاد السياسي احتداما أيضا. وسوف يكون لزاما على دعاة الديمقراطية أن يدافعوا عن مواقفهم بشدة، مما يوضح لماذا يُـعَـد نموذج الحكم المصمم لعزل السلطات العامة عن مطالب الناس فكرة سيئة.

يتعين علينا أيضا أن نستكشف كيفية تحسين الديمقراطيات لدينا. ذلك أن الديمقراطية ليست في حد ذاتها خيرا لسياسة المناخ والسياسة البيئية؛ بل نحن في احتياج إلى ديمقراطية حسنة، تتمتع بالقدر الكافي من الثقة العامة وتتسم بمستويات متدنية من الفساد. اعتمادا على كل بلد، من الممكن أن نتخيل إصلاحات الحوكمة لتقليص فرص الاستحواذ السياسي من قِـبَـل المصالح الخاصة، وتحسين علاقة الارتباط بين المقاعد البرلمانية والأصوات الشعبية، وضمان قدر أعظم من المساءلة من خلال ضمان حرية الصحافة. تدرس بعض الدول أيضا تمديد حقوق التصويت إلى الشباب في سن 16 عاما، وهذا من شأنه أن يزيد من حصة الناخبين المحتملين المتوجهين نحو المستقبل.

الواقع أن هذه المقترحات جديرة بالنظر. فلن يتحقق "التحول العادل" الناجح باستبعاد الناس من عملية صنع القرار. كما أثبت الراحل كاليستوس جمعة من جامعة هارفارد في كتابه الأخير بعنوان "الإبداع وأعداؤه"، من الشائع أن تعارض شرائح عديدة من المجتمع التحولات التكنولوجية الكبرى، لأن الناس يخشون بطبيعتهم (سواء كان ذلك من قبيل الصواب أو الخطأ) أن يجدوا أنفسهم على الطرف الخاسر. عندما تجاهلت المجتمعات هذا الميل في الماضي، كثيرا ما كانت الاضطرابات السياسية والاجتماعية تتبع ذلك، فَــتُـخـرِج منافع الإبداع الجديد عن مسارها أو تحد منها.

يبدأ مثل أفريقي قديم بالعبارة التالية: "إذا كنت تريد أن تذهب سريعا، فاذهب بمفردك". هذا هو النهج الذي يفضله أنصار الاستبدادية البيئية وغيرهم من المستبدين. من ناحية أخرى، يدرك أنصار الديمقراطية بين الناس العاديين حكمة النصف الثاني من المثل: "إذا كنت تريد أن تذهب بعيدا، فاذهب مع إخوانك".

على الرغم من أن السرعة مهمة بكل تأكيد، فإن الاستجابة العالمية لتغير المناخ ــ والمطالبات بالعدالة المناخية ــ ستكون في الأرجح أشبه بسباق الماراثون وليس العدو لمسافة قصيرة. وعلى الرغم من كل نقائصها، تظل الديمقراطية تُـعَـد النظام الأفضل لدينا للتحرك بجرأة مع العمل أيضا على إشراك بقية المجتمع. كان ونستون تشرشل على حق عندما قال إن الديمقراطية هي "أسوأ أشكال الحكم باستثناء كل الأشكال التي جربناها من حين لآخر"، وإذا لم نلزم جانب الحذر، فقد تُـجَـرَّب مرة أخرى.

ترجمة: إبراهيم محمد علي            Translated by: Ibrahim M. Ali

https://prosyn.org/FsKerg5ar