sachs350 Getty Images

الصراع داخل البيت الأميركي

نيويورك ــ بعد مرور ما يقرب من العام منذ فاز جو بايدن على دونالد ترمب بهامش ضئيل في الانتخابات الرئاسية، تظل الولايات المتحدة في مهب الريح. فالنتائج السياسية الممكنة عديدة. وهي تتراوح من الإصلاح الاقتصادي والسياسي التدريجي الذي يسعى إليه بايدن إلى تخريب الانتخابات والحكم الدستوري كما حاول ترمب أن يفعل في يناير/كانون الثاني الماضي ــ وهو الهدف الذي لا يزال هو والحزب الجمهوري عازمين على ملاحقته.

ليس من السهل تشخيص الـعِـلة التي توجع أميركا في الصميم إلى الحد الذي يجعلها تدعو إلى احتضان حركة ترمب. أهي الحروب الثقافية المتواصلة التي تقسم أميركا على أساس الـعِـرق، والدين، والإيديولوجية؟ أهي فجوة التفاوت في الثروة والسلطة التي اتسعت إلى مستويات غير مسبوقة؟ أهي قوة أميركا العالمية المتضائلة، مع صعود الصين والكوارث المتكررة التي أحدثتها حروب الاختيار التي قادتها الولايات المتحدة التي أدت إلى المعاناة والإحباط والارتباك على المستوى الوطني؟

كل هذه العوامل تساهم في السياسة الأميركية المضطربة. ولكن في اعتقادي أن الأزمة الأشد عمقا سياسية ــ فشل المؤسسات السياسية في أميركا في "تعزيز الرفاهة العامة"، كما يَـعِـد دستور الولايات المتحدة. على مدار العقود الأربعة الأخيرة، تحولت السياسة في أميركا إلى لعبة يمارسها المطلعون من الداخل لمحاباة جماعات الضغط من الشركات وأصحاب الثراء الفاحش على حساب الغالبية العظمى من المواطنين.

فئة الواحد بالمئة فوق البقية

في عام 2006 وضع وارن بافت إصبعه على جوهر الأزمة. قال: "هناك حرب طبقية، حسنا، ولكن أبناء طبقتي، الطبقة الغنية، هم الذين يشنون الحرب، ونحن ننتصر".

تقع ساحة المعركة الرئيسية في واشنطن العاصمة. وتتمثل قوات الصاعقة في جماعات الضغط التي تحتشد في الكونجرس الأميركي، والوزارات الفيدرالية، والهيئات الإدارية. أما الذخيرة فهي مليارات الدولارات التي تُـنـفَـق سنويا لتمويل أنشطة جماعات الضغط الفيدرالية (ما يقدر بنحو 3.5 مليار دولار في عام 2020) والمساهمات في الحملات (ما يقدر بنحو 14.4 مليار دولار في الانتخابات الفيدرالية لعام 2020). ويتمركز الدعاة المروجون للحروب الطبقية في وسائل الإعلام الشركاتية بقيادة الملياردير روبرت مردوخ.

PS_Sales_BacktoSchool_1333x1000_Promo

Don’t go back to school without Project Syndicate! For a limited time, we’re offering PS Digital subscriptions for just $50.

Access every new PS commentary, our suite of subscriber-exclusive content, and the full PS archive.

Subscribe Now

قبل ما يقرب من 2500 عام، لاحظ أرسطو أن الحكومة الرشيدة من الممكن أن تتحول إلى حكومة فاسدة من خلال نظام دستوري معيب. فالجمهوريات التي تحكمها سيادة القانون، من الممكن أن تنزلق إلى حكم الغوغاء الشعبوي، أو حُـكم الـقِـلة من جانب طبقة صغيرة فاسدة، أو طغيان الحكم الشخصي من قِـبل الفرد الواحد. تواجه أميركا مثل هذه الكوارث المحتملة ما لم يتمكن النظام السياسي من فصل ذاته عن الفساد الهائل المتمثل في جماعات الضغط الشركاتية وتمويل الحملات الانتخابية من قِبَـل الأثرياء.

الواقع أن حرب أميركا الطبقية على الفقراء ليست جديدة، لكنها انطلقت بكامل طاقتها في أوائل سبعينيات القرن العشرين ونُـفِّـذَت بكفاءة وحشية على مدار السنوات الأربعين الأخيرة. طوال ما يقرب من الثلاثين عاما، منذ تنصيب الرئيس فرانكلين ديلانو روزفلت في عام 1933 في أوج الكساد الأكبر إلى فترة كيندي-جونسون من 1961 إلى 1968، كانت أميركا في عموم الأمر على ذات مسار التنمية مثل أوروبا الغربية بعد الحرب، لتتحول إل ديمقراطية اجتماعية. وكان التفاوت في الدخل يتجه نحو الانخفاض، وانضم المزيد من الفئات الاجتماعية، وخاصة الأميركيون من أصل أفريقي والنساء، إلى التيار الرئيسي للحياة الاقتصادية والسياسية.

ثم جاء انتقام الأثرياء. في عام 1971، قام محامي الشركات لويس باول بإرساء استراتيجية الهدف منها عكس اتجاه الديمقراطيات الاجتماعية نحو تنظيم بيئي أقوى، وحقوق العمال، والضرائب العادلة. بدأت الشركات الكبرى تقاوم. ثم رشح الرئيس ريتشارد نيكسون باول للمحكمة العليا الأميركية في عام 1971، وأدى اليمين في أوائل العام التالي، مما مكنه من وضع خطته موضع التنفيذ.

بتحفيز من جانب باول، فتحت المحكمة العليا الباب على مصراعيه لأموال الشركات في السياسة. في قضية باكلي ضد فاليو (1976)، ألغت المحكمة القيود الفيدرالية المفروضة على إنفاق المرشحين والمجموعات المستقلة على الحملات الانتخابية باعتبارها انتهاكا لحرية التعبير. وفي قضية فيرست ناشيونال بنك أوف بوسطن ضد بيلوتي (1978)، سـطـر باول رأي الأغلبية معلنا أن إنفاق الشركات على أغراض الدعوة السياسية من أشكال حرية التعبير التي لا يجوز إخضاعها لحدود الإنفاق. ثم بلغ هجوم المحكمة على القيود المفروضة على تمويل الحملات الانتخابية ذروته في قضية سيتيزن يونايتيد ضد لجنة الانتخابات الفيدرالية (2010)، والتي أنهت بشكل أساسي جميع القيود المفروضة على إنفاق الشركات في السياسة الفيدرالية.

عندما أصبح رونالد ريجان رئيسا في عام 1981، عزز هجوم المحكمة العليا على الرفاهة العامة بخفض الضرائب المفروضة على الأثرياء، وشن هجوم على العمل المنظم، وتقليص تدابير الحماية البيئية. ولا يزال هذا المسار غالبا حتى الآن.

نتيجة لهذا، تباعدت الولايات المتحدة عن أوروبا في ما يتصل باللياقة الاقتصادية، والرفاهة، والسيطرة البيئية. ففي حين استمرت أوروبا في عموم الأمر على مسار الديمقراطية الاجتماعية والتنمية المستدامة، انطلقت الولايات المتحدة عل مسار اتسم بالفساد السياسي، وحُـكم القِـلة، والفجوة المتزايدة الاتساع بين الأثرياء والفقراء، وازدراء البيئة، ورفض الحد من تغير المناخ الناجم عن أنشطة بشرية.

تنبئنا بعض الأرقام بالفوارق. تجمع حكومات الاتحاد الأوروبي إيرادات تعادل في المتوسط 45% من الناتج المحلي الإجمالي، في حين تبلغ إيرادات الحكومة الأميركية 13% فقط من الناتج المحلي الإجمالي. وبالتالي، تتمكن الحكومات الأوروبية من تحمل تكاليف الوصول الشامل إلى الرعاية الصحية، والتعليم العالي، ودعم الأسر، والتدريب الوظيفي، في حين لا تضمن الولايات المتحدة توفير هذه الخدمات. تتصدر أوروبا تصنيفات تقرير السعادة العالمي للرضا عن الحياة، في حين تأتي الولايات المتحدة في المرتبة 19. في عام 2019، كان متوسط العمر المتوقع في الاتحاد الأوروبي 81.1 عاما، مقارنة بنحو 78.8 في الولايات المتحدة (التي كان متوسط العمر المتوقع فيها أعلى من نظيره في الاتحاد الأوروبي في عام 1980). حتى عام 2019، كانت حصة أغنى 1% من الأسر في الدخل الوطني نحو 11% في أوروبا الغربية، مقارنة بنحو 18.8% في الولايات المتحدة. وفي عام 2019، أطلقت الولايات المتحدة 16.1 طنا من ثاني أكسيد الكربون لكل شخص، مقارنة بنحو 8.3 طنا من ثاني أكسيد الكربون لكل شخص في الاتحاد الأوروبي.

باختصار، أصبحت الولايات المتحدة دولة أثرياء يحكمها أثرياء لصالح الأثرياء، دون احترام لأي مسؤولية سياسية عن الأضرار المناخية التي تلحقها ببقية العالم. وأدت الانقسامات الاجتماعية الناتجة عن ذلك إلى انتشار وباء الموت يأسا (بما في ذلك الجرعات الزائدة من المخدرات والانتحار)، وانخفاض متوسط العمر المتوقع (حتى قبل جائحة مرض فيروس كورونا 2019)، وارتفاع معدلات الاكتئاب، وخاصة بين الشباب. على المستوى السياسي، أفضت هذه الاختلالات إلى اتجاهات متنوعة ــ كان أكثرها شؤما انتخاب دونالد ترمب الذي قدم شعبوية زائفة وعبادة الشخصية. الواقع أن محاباة الأثرياء مع تشتيت انتباه الفقراء برهاب الأجانب، والحروب الثقافية، ومظهر الرجل القوي، ربما تكون الحيلة الأقدم في دليل زعماء الدهماء، لكنها مع ذلك تظل قادرة على إحراز النجاح بدرجة مدهشة.

رياح معاكسة قوية

هذا هو الوضع الذي يحاول بايدن معالجته، لكن نجاحاته حتى الآن كانت محدودة وهشة. الحقيقة البسيطة هي أن كل الجمهوريين في الكونجرس ومجموعة صغيرة لكنها حاسمة من الديمقراطيين (وأكثرهم شهرة السيناتور جو مانشين من ويست فيرجينيا وكيرستن سينيما من أريزونا) عازمون على منع أي زيادة حقيقية في الضرائب المفروضة على الأثرياء والشركات الأميركية، وبالتالي منع نمو الإيرادات الفيدرالية اللازمة بشكل شديد الإلحاح لخلق مجتمع أكثر عدالة واخضرارا. وهم يعرقلون أيضا العمل الحاسم في مجال مكافحة تغير المناخ.

وعلى هذا فإننا نقترب من نهاية أول أعوام بايدن في الرئاسة ولا يزال الأثرياء راسخين في السلطة، في ظل عقبات في كل اتجاه في ما يتعلق بالضرائب العادلة، وزيادة الإنفاق الاجتماعي، وحماية حقوق التصويت، والضمانات البيئية المطلوبة بشكل عاجل. ربما لا يزال بوسع بايدن أن يحقق بعض المكاسب المتواضعة بصعوبة، ثم يبني عليها في السنوات المقبلة. من الواضح أن عامة الناس يريدون هذا. وما يقرب من ثلثي الأميركيين يفضلون فرض ضرائب أعلى على الأثرياء والشركات.

مع ذلك، يظل احتمال حقيقي قائما بأن تساعد نكسات بايدن في عام 2021 الجمهوريين على الفوز بالسيطرة على أحد مجلسي الكونجرس أو كليهما في عام 2022. هذا من شأنه أن يضع حدا للإصلاحات التشريعية حتى عام 2025 على الأقل، وقد ينذر حتى بعودة ترمب إلى السلطة في انتخابات الرئاسة عام 2024 وسط حالة من الفوضى الاجتماعية، والعنف، والدعاية الإعلامية، وقمع الناخبين في الولايات التي يسيطر عليها الجمهوريون.

كما تُـفـضـي الاضطرابات في أميركا إلى عواقب دولية مزعجة. فمن غير الممكن أن تتولى الولايات المتحدة قيادة إصلاحات عالمية في حين تعجز حتى عن حكم نفسها على نحو متماسك. لعل الأمر الوحيد الذي يوحد الأميركيين في الوقت الحاضر هو شعور مفرط بالتهديدات من الخارج، وخاصة من جانب الصين. في ظل حالة الفوضى الداخلية التي تعيشها أميركا، دأب الساسة من الحزبين على تصعيد خطابهم المناهض للصين، كما لو أن حربا باردة جديدة من الممكن أن تهدئ بطريقة ما الخوف الداخلي المنشأ في أميركا. من المؤسف أن الشيء الوحيد الذي قد ينتج عن حالة الحرب بين الحزبين في واشنطن هو المزيد من التوترات العالمية ومخاطر الصراع الجديدة (حول تايوان على سبيل المثال)، وليس الأمن أو الحلول الحقيقية لأي من مشاكلنا العالمية الملحة.

لم تعد الولايات المتحدة إلى سابق عهدها، حتى الآن على الأقل. وهي لا تزال تخوض غمار صراع عنيف للتغلب على عقود من الفساد السياسي والإهمال الاجتماعي. وتظل النتيجة غير مؤكدة إلى حد بعيد، وتظل آفاق السنوات القادمة حافلة بالمخاطر التي تهدد الولايات المتحدة والعالم.

ترجمة: إبراهيم محمد علي            Translated by: Ibrahim M. Ali

https://prosyn.org/oycmCSCar