bremmer35_getty images_ai governance Getty Images

الذكاء الاصطناعي بقعة مُـشـرِقة نادرة في مجال الحوكمة العالمية

نيويوركــ في الآونة الأخيرة، مرت التعددية بأوقات عصيبة، وخاصة في الأمم المتحدة. فلم يتمكن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة من وقف غزو روسيا لأوكرانيا، ولا يزال وقف إطلاق النار في غزة ولبنان بعيد المنال، وفشلت قمم مؤتمرات الأطراف المتعاقبة في تحفيز تدابير ملموسة كافية لتلبية أهداف المناخ العالمية. لم تعد أهداف التنمية المستدامة التي أقرتها الأمم المتحدة وحدها بعيدة عن المسار الصحيح؛ بل وفي كثير من الحالات، انقلب التقدم نحو تحقيقها في الاتجاه المعاكس. وتبدو التزامات الأمم المتحدة الأساسية بالسلام والأمن والتعاون غريبة للغاية في وقت حيث تستعر حروب متعددة، وتتصاعد سياسات الحماية، وينقسم العالم إلى كتل متنافسة.

ولكن على الرغم من هذا الركود الجيوسياسي، لا يزال التعاون العالمي في حكم الممكن. وقد اختبرت قمة المستقبل الأولى التي عقدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في الثاني والعشرين والثالث والعشرين من سبتمبر/أيلول قدرة المنظمة على التصدي لواحد من أكبر التحديات العابرة للحدود الوطنية في العالم: الذكاء الاصطناعي. وبقدر ما قد يكون هذا مفاجئا، فقد اجتازت الأمم المتحدة الاختبار.

ليس من قبيل المبالغة أن نقول إن الذكاء الاصطناعي حفز واحدة من أسرع الاستجابات السياسية وأكثرها قوة في الذاكرة الحية. فقبل عام واحد فقط، دعا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش ممثلين من الحكومات، والقطاع الخاص، ومنظمات المجتمع المدني لتقديم توصيات حول كيفية إدارة العالم للذكاء الاصطناعي وتوظيفه في خدمة الإنسانية. كان يعلم أن طموح العالم لإدارة الذكاء الاصطناعي قد يعجز عن إحداث الأثر المطلوب تماما كما كانت حال الاستجابة الأولية لتغير المناخ. كانت الأساليب القائمة مجزأة بالفعل، ومعظمها استبعد الجنوب العالمي، ولم تكن 118 دولة طرفا في أي إطار لحوكمة الذكاء الاصطناعي على الإطلاق.

لقد عملنا معا كمقررين للهيئة الاستشارية الرفيعة المستوى المعنية بالذكاء الاصطناعي الـمُـشَـكَّـلة من قِبَـل الأمين العام، والتي جرى إنشاؤها لمواجهة هذا التحدي الجدير بالاهتمام. وبما يعكس تنوع العالم، جاء أعضاؤها البالغ عددهم 39 عضوا من كل قارة، وشملوا ممثلين من الحكومات، والأوساط الأكاديمية، والمجتمع المدني، وصناعة التكنولوجيا.

كان هذا أول جهد عالمي حقيقي لحوكمة الذكاء الاصطناعي، ونحن سعداء لأن كثيرا من توصياتنا تبناها الميثاق الرقمي العالمي، وهو إطار حوكمة شامل اعتمدته الدول الأعضاء في الأمم المتحدة الشهر الماضي. كان التوصل إلى هذا الاتفاق الجديد يتطلب التغلب على جميع الاختلافات الحقيقية التي تفصل بين الولايات المتحدة، والصين، وأوروبا، والجنوب العالمي، فضلا عن الحكومات والقطاع الخاص (وخاصة شركات التكنولوجيا).

على سبيل المثال، تتلخص إحدى توصياتنا ــ والتي نالت الموافقة من حيث المبدأ للتنفيذ ــ في إنشاء لجنة علمية دولية معنية بالذكاء الاصطناعي. وقد بدأنا من فرضية مفادها أننا يجب أن نتوصل إلى فهم مشترك للتكنولوجيا ومخاطرها وتأثيراتها المحتملة عبر البلدان والثقافات حتى يتسنى لنا إدارة قضية معقدة بقدر تعقيد الذكاء الاصطناعي.

Secure your copy of PS Quarterly: The Climate Crucible
PS_Quarterly_Q3-24_1333x1000_No-Text

Secure your copy of PS Quarterly: The Climate Crucible

The newest issue of our magazine, PS Quarterly: The Climate Crucible, is here. To gain digital access to all of the magazine’s content, and receive your print copy, subscribe to PS Premium now.

Subscribe Now

لقد تعلمنا هذا الدرس بالطريقة الصعبة من تغير المناخ. ففي حين يناقش كثيرون الآن كيفية معالجة أزمة المناخ، لن نجد حوارا جادا حول ما إذا كان ينبغي لنا معالجتها؛ الأدلة التي أوردتها اللجنة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ دامغة. وإنشاء لجنة حكومية دولية مماثلة معنية بالذكاء الاصطناعي من شأنه أن يعيننا على الاضطلاع بالعمل الصعب ولكن الأساسي المتمثل في تحليل التطورات الجارية في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، وبالتالي منح صناع السياسات أساسا واقعيا ومستقلا لتنوير المناقشات بالمعلومات وتحديد والأهداف والقرارات السياسية.

لكن أكثر ما يثير حماسنا هو احتمال ضمان استفادة الجميع من الذكاء الاصطناعي. على النقيض من تغير المناخ ــ حيث السياسات محصلتها صفر وحيث المقايضات الخطيرة القصيرة الأجل بين خفض الانبعاثات، وتعزيز النمو الاقتصادي، وتحقيق المساواة (في ظل مصالح راسخة قوية تعارض الانتقال إلى مرحلة ما بعد الكربون) ــ يُـعَـد الذكاء الاصطناعي القضية العابرة للحدود الوطنية النادرة التي تنطوي على حلول محصلتها إيجابية. فإذا جرى تقاسم الذكاء الاصطناعي بأمان وحمله على احترام القانون الدولي والحريات الأساسية، فلا ينبغي له أن يشكل تهديدا وجوديا للحكومات والشركات القائمة. بل ينبغي له بدلا من ذلك أن يحفز فرص الفوز للجميع.

الواقع أن الطلب هائل على تكنولوجيات مثل الذكاء الاصطناعي، فضلا عن الإثارة بشأن إمكاناتها فيما يتصل بمساعدتنا على تحقيق جميع أشكال الأهداف، بما في ذلك تلك المنصوص عليها في أهداف التنمية المستدامة. فمن الصحة العامة والتعليم إلى النمو الاقتصادي والتخفيف من التأثيرات المترتبة على تغير المناخ، بوسع الذكاء الاصطناعي أن يعمل كتكنولوجيا قادرة على تغيير كل القواعد. ولكن بدون البنية الأساسية والآليات اللازمة للإشراف على نموه التحويلي، فإنه قد يؤدي إلى مزيد من التباعد العالمي، مع تخلف أفقر السكان وأكثرهم ضعفا عن الركب مرة أخرى. ونحن عازمون على منع ذلك المصير.

لهذا السبب، بالإضافة إلى تشكيل قاعدة معرفية مشتركة، أوصينا بمبادرات الهدف منها تعزيز قدرة كل البلدان والمجتمعات على الوصول إلى الذكاء الاصطناعي. ومن المواهب والمعايير إلى البيانات والتمويل، تستطيع الأمم المتحدة وشركاؤها المساعدة في معالجة الفجوات في الموارد والبنية الأساسية لضمان عدم تخلف أي شخص عن رَكب ثورة الذكاء الاصطناعي.

بالطبع، هناك من يشكك في دور الأمم المتحدة في إدارة الذكاء الاصطناعي، ويجب أن تتم الحوكمة على مستوى الدول القومية أيضا. كما تعمل الشركات التي تطور نماذج الذكاء الاصطناعي على إنشاء المعايير. لكن الذكاء الاصطناعي، مثله كمثل الإنترنت من قبله، تعمل إمكاناته على جعله منفعة عامة عالمية (كما هي سلامة الذكاء الاصطناعي). والأمم المتحدة هي الهيئة العالمية الوحيدة التي تتمتع بالشرعية للجمع بين حكومات العالم وأصحاب المصلحة في الذكاء الاصطناعي، والقدرة على ضمان أي اتفاقيات ناتجة عن ذلك. يبدأ ذلك بوضع العالم على نفس الصفحة ــ ليس لفرض الحوكمة فرضا، بل للتوافق حول طبيعة وحجم الفرصة والتحديات. وبالاستعانة بالرؤية الصحيحة، والأدوات المناسبة، والقيادة السياسية الحقيقية، يصبح بوسعنا نشر الموارد اللازمة لضمان وفاء الذكاء الاصطناعي بوعوده.

من تغير المناخ والصحة العامة إلى الانتشار النووي، لجأ العالم إلى الأمم المتحدة لحل مشكلاته الأشد تعقيدا. وتسلط الصراعات المسلحة، والكوارث الإنسانية، والأزمات البيئية، والمحن الاقتصادية الضوء على فشل المجتمع الدولي المتكرر في الارتقاء إلى مستوى التحديات التي يواجهها العالم. ولكن بينما نتصارع مع أكثر التكنولوجيات ثورية وإرباكا على الإطلاق، يُـثبِـت الميثاق الرقمي العالمي أن الأمل لا يزال قائما في التعددية في عالم مُـفَـتَّـت جيوسياسيا.

ترجمة: إبراهيم محمد علي        Translated by: Ibrahim M. Ali

https://prosyn.org/MHFHS3nar