khrushcheva163_Alexey FurmanGetty Images_zelensky Peter Turnley/Corbis/VCG via Getty Images

الاغتيال لصانعي السلام؟

موسكو ــ "طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يُـدعَون"، هكذا قال يسوع الناصري لأتباعه في عظة الجبل. من المستحيل أن نعرف ما إذا كان أولئك الذين يجسرون على التقدم لإنهاء الصراعات الوحشية يتمتعون حقا بثوابهم العظيم في الفردوس، كما تعدهم العظة. الأمر الواضح أن صانعي السلام هنا على الأرض يدفعون ثمنا باهظا ــ حياتهم غالبا ــ نظير جهودهم.

الأمثلة عديدة وشهيرة. في ديسمبر/كانون الأول من عام 1921، وَقَّـع مايكل كولينز، أحد زعماء نضال أيرلندا لنيل الاستقلال عن المملكة المتحدة، على المعاهدة الأنجلو-أيرلندية المثيرة للجدال، والتي أفضت إلى تأسيس دولة أيرلندا الحرة التي تولى الملك جورج الخامس رئاستها. في أعقاب ذلك اندلعت حرب أهلية وحشية، واغتيل كولينز، لكن القوى المناصرة للمعاهدة كانت لها الـغَـلَـبة في النهاية.

في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1977 ــ بعد أربع سنوات فقط من حرب أكتوبر/تشرين الأول ــ أصبح الرئيس الـمِـصري أنور السادات أول زعيم عربي يزور إسرائيل، حيث ألقى خطابا طاوَلَ كل التوقعات. قال للمشرعين الإسرائيليين: "جئت إليكم اليوم على قدمين ثابتتين، لكي نبني حياة جديدة، لكي نقيم السلام". مهدت تلك الزيارة الطريق لاتفاقيات كامب ديفيد في عام 1978، ثم معاهدة السلام الـمِـصرية الإسرائيلية في عام 1979. لكن المشاعر المعادية لإسرائيل ظلت قوية، وفي عام 1981 أقدم ضباط أصوليون في الجيش المصري على إطلاق النار على السادات أثناء عرض عسكري، فَـقُـتِـل على الفور ــ لكن السلام الذي بدأه ظل قائما.

في سبتمبر/أيلول من عام 1995، وَقَّـع رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين على اتفاقية أوسلو الثانية ــ الخطوة الحاسمة نحو اتفاق سلام شامل بين الإسرائيليين والفلسطينيين. بعد أقل من شهرين، صَـرَعته رصاصة قاتل سَـفَّـاك. لكن هذه المرة، لم تَـنـج عملية السلام من خسارة صانع السلام؛ واليوم يبدو الطرفان أبعد من أي وقت مضى عن التوصل إلى اتفاق.

والقائمة تطول. فقد اغتيل فالتر راتناو من جمهورية فايمار الألمانية بسبب مشاركته في التفاوض على معاهدة رابالو مع الاتحاد السوفييتي. وقُـتِـل المهاتما غاندي برصاص متطرف قومي هندوسي اعترض على فلسفته في التسامح تجاه المسلمين. كما قُـتِـل رئيس وزراء الهند راجيف غاندي في تفجير نفذه انتحاري من نمور التاميل بعد فترة وجيزة من إنهاء تدخل الهند العسكري في الحرب الأهلية في سريلانكا.

الرسالة واضحة: القائد الذي يقبل التسوية من أجل السلام قد تنتهي به الحال إلى الموت في سبيل القضية. إنها حقيقة يجب أن يدركها تمام الإدراك الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي.

Secure your copy of PS Quarterly: The Year Ahead 2025
PS_YA25-Onsite_1333x1000

Secure your copy of PS Quarterly: The Year Ahead 2025

Our annual flagship magazine, PS Quarterly: The Year Ahead 2025, is almost here. To gain digital access to all of the magazine’s content, and receive your print copy, subscribe to PS Premium now.

Subscribe Now

اتسمت العقود الثلاثة التي مرت منذ استقلت أوكرانيا بالصراعات السياسية الوحشية، ولم تكن الأشهر التي سبقت الغزو الروسي مختلفة. حتى أن زيلينسكي الذي لم يكن يحظى بشعبية في ذلك الوقت ذهب إلى حد توجيه تهم الخيانة ضد الرئيس الذي سبقه بيترو بوروشينكو. (يتساءل المرء ما إذا كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتن رأى في هجوم زيلينسكي الأخرق على بوروشينكو دليلا على أن الديمقراطية في أوكرانيا كانت في حالة اضمحلال نهائي، وأن الدولة جاهزة لهيمنته).

ثم غَـيَّـر الغزو الروسي كل شيء، حيث أظهرت أوكرانيا مستوى من الوحدة أذهل العالم، وألهمه من نواح عديدة. في حين قدم الغرب الموارد، فإن الأوكرانيين هم الذين تصدوا لواحدة من أكبر المؤسسات العسكرية في العالَـم، وتمكنوا من حماية مناطق رئيسية واستعادة مناطق أخرى.

على المستوى السياسي، فشل زيلينسكي في إنشاء حكومة الوحدة الوطنية التي دعت إليها منافسته ذات يوم، رئيسة الوزراء السابقة يوليا تيموشينكو، في الفترة التي سبقت الحرب. لكن سياسته القائمة على المقاومة التامة ــ بما في ذلك مطالبته بانسحاب روسيا بالكامل من الأراضي الأوكرانية قبل بدء أي عملية سلام ــ حظيت بدعم أحزاب المعارضة الأوكرانية على اليسار واليمين، فضلا عن أنصار حكم القِـلة الجامحين. وحتى الفصائل السياسية التي دعمت روسيا لفترة طويلة التزمت الصمت منذ بدأت الحرب.

تدور التقارير الوحيدة عن احتكاكات بين القيادات الأوكرانية حول جنرالات يقودون القتال. يُـزعَـم أن بعض أعضاء الدائرة المقربة من زيلينسكي يخشون أن القادة العسكريين ــ الذين يتمتعون بشعبية هائلة بين جماهير الأوكرانيين ــ ربما يَـتَـحـدّون الرئيس في الانتخابات القادمة.

يشير هذا إلى أن الأوكرانيين في الوقت الحالي ربما لا يتحدون خلف زيلينسكي ذاته بقدر ما يتحدون وراء موقفه العنيد بشأن المفاوضات مع روسيا. وعلى هذا، فإذا استسلم للضغوط الدولية المتنامية الرامية إلى حمله على تخفيف موقفه، فقد لا يتبع الأوكرانيون خطاه. بعد الكفاح البطولي الذي خاضوه، قد يشعر كثيرون بأنهم وقعوا ضحية خيانة، بل وحتى بالغضب الشديد. وإذا كان لنا أن نسترشد بالتاريخ، فقد ينشأ عن ذلك حالة من العنف تستهدف زيلينسكي في المقام الأول.

الواقع أن كثيرين من أولئك الذين يحثون زيلينسكي على التفاوض مع بوتن يفعلون ذلك لأنهم يريدون حقا إنهاء إراقة الدماء. ولكن مثلما تنطوي الحرب على تكاليف باهظة، فقد تكون هذه أيضا حال السلام مع روسيا، وخاصة بالنسبة لصانع السلام. إذا اقتنع زيلينسكي بتقديم تنازلات لنظام قضى على البنية الأساسية في بلاده، وضم المزيد من أراضيها، فيتعين على أولئك الذين يشجعونه أن يبتكروا خطة ــ وأن يكونوا على استعداد لدعمها لسنوات مقبلة ــ من شأنها أن تخفف أي تهديدات هجومية من جانب روسيا في المستقبل.

قال يسوع: "طوبى لكم إذا عيروكم وطردوكم وقالوا عليكم كل كلمة شريرة". وإذا خلص زيلينسكي وحلفاؤه إلى أن اتفاق السلام هو أفضل خيار متاح لأوكرانيا، فلا نملك إلا أن نأمل أن لا يذهب الشر إلى ما هو أبعد من سيل من الإهانات.

ترجمة: إبراهيم محمد علي            Translated by: Ibrahim M. Ali

https://prosyn.org/b5pfVg0ar