مدريد ـ لقد نجح الأمن الأوروبي مُجددًا في بلوغ قمة الأجندة الجيوسياسية على مستوى العالم. فعلى الرغم من الجهود الدبلوماسية المُتواصلة لنزع فتيل الأزمة الأوكرانية، فقد تصاعدت التوترات والشكوك بين روسيا والغرب إلى مستويات لم نشهدها منذ الحرب الباردة. قد يفرض هذا الاتجاه إعادة النظر في الإطار الأمني الإقليمي الحالي، والذي يستند إلى ثلاث ركائز أساسية: الولايات المتحدة وروسيا وأوروبا.
لا شك في أن التصدي للتحدي الذي يُمثله الأمن الأوروبي سيُهيمن على المناقشات بين الزعماء السياسيين وخبراء العلاقات الدولية من كلا جانبي المحيط الأطلسي في مؤتمر ميونيخ للأمن (MSC) في نهاية هذا الأسبوع. ومع ذلك، بالإضافة إلى محنة أوكرانيا، فإن تأثير الابتكار التكنولوجي والرقمي على الأمن سيكون بارزًا أيضًا.
وتعكس التوترات الجيوسياسية المُستمرة بشأن أوكرانيا مفهومًا تقليديًا للأمن يغلب عليه الطابع الجغرافي في الغالب - والذي ينعكس في الاستخدام المتكرر لمصطلحات مثل "مناطق النفوذ"، و"توسع منظمة حلف شمال الأطلسي"، و "السلامة الإقليمية"، و "المجال الأمني في مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي". ولكن على الرغم من أن هذه المفردات ضرورية لفهم المواجهة الحالية بين حلف شمال الأطلسي وروسيا، فإن التغيرات الجيوسياسية الهائلة التي أحدثتها العولمة والتقدم التكنولوجي على مدى السنوات الخمس والعشرين الماضية سوف تحجب هذه المواجهة بشكل متزايد.
ويرجع ذلك إلى أن الاعتماد الجيوسياسي المُتبادل والابتكار التكنولوجي المُتواصل على ما يبدو قد غيّر طبيعة الصراع العالمي. وكما توضح "حروب التواصل"، وهي مجموعة من المقالات التي نشرها "المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية"، فإن فرط التواصل في النظام العالمي يمكّن الجهات الفاعلة - دون اللجوء إلى الحرب المفتوحة - من إحداث أضرار جسيمة في مجالات جيوسياسية أخرى، مثل الإنترنت، التي أصبحت اقتصاداتنا تعتمد عليها.
وبالتالي، لا ينبغي الاستهانة بالبعد الإلكتروني للمواجهة بشأن أوكرانيا. وفي يناير/ كانون الثاني الماضي، قام مجرمو الإنترنت بتعطيل العديد من مواقع الحكومة الأوكرانية لساعات ونشروا رسائل تهدد المواطنين الأوكرانيين وسرية بياناتهم الشخصية.
وفي وقت سابق، قدرت الحكومة الأمريكية أن الهجوم الإلكتروني "نوت بيتيا" لعام 2017 الذي استهدف أوكرانيا قد تسبب في أضرار عالمية بلغ مجموعها 10 مليارات دولار، مما يجعلها أكثر الهجمات تدميراً على الإطلاق. وقد أصابت هذه البرامج البرمجيات الخبيثة 10٪ من أنظمة الكمبيوتر في أوكرانيا قبل أن تنتشر في مختلف أنحاء العالم.
وكما حذر وزير الدفاع الأمريكي آنذاك ليون بانيتا في عام 2012، لا يمكننا أيضًا استبعاد الاحتمال البعيد ظاهريًا المُتمثل في هجوم "بيرل هاربور السيبراني" الذي يشل الهياكل الأساسية الحيوية في الولايات المتحدة. وفي كل الأحوال، أصبحت الهجمات الإلكترونية وعواقبها متكررة بشكل خطير، وما زلنا نفتقر إلى المؤسسات أو الهياكل الأساسية القوية بما يكفي لمواجهة هذا التهديد.
وفي كتابه "مستقبل القوة"، يُجادل جوزيف س. ناي جونيور من جامعة هارفارد بأن أحد الاتجاهات الرئيسية في القرن الحادي والعشرين تتمثل في فقدان الدول لنفوذها الجيوسياسي. يُشكل الفضاء الإلكتروني مثالًا واضحًا على ذلك. قد تتمتع القوى الرائدة بقدرة فريدة على التحكم في المجال البحري والجوي والفضاء الخارجي، لكنها لا تتمتع بهيمنة مماثلة في العالم الرقمي.
علاوة على ذلك، فإن طبيعة الفضاء الإلكتروني تعمل على خفض تكاليف العمل الهجومي إلى حد كبير. على سبيل المثال، تُعد تكاليف التعاقد مع مجرمي الإنترنت ضئيلة للغاية مقارنة بسعر طائرة مقاتلة من طراز F-35 البالغ 80 مليون دولار (ناهيك عن التكلفة الإضافية للصيانة والذخائر والموظفين).
وسوف تجرى المناقشات في مؤتمر ميونيخ للأمن بشأن الجانب الإلكتروني للأمن في إطار الأجندة الرقمية عبر المحيط الأطلسي، والتي اتخذت خطوة مهمة إلى الأمام العام الماضي عندما أنشأت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مجلس التجارة والتكنولوجيا. تتمثل القضية الأساسية في كيفية تنظيم المجال الرقمي بطريقة تسمح لنا بالاستفادة من إمكانياته الاقتصادية الهائلة، وفي الوقت نفسه، حماية أنفسنا من المخاطر المُحتملة التي يشكلها على ديمقراطياتنا.
لقد قام الاتحاد الأوروبي ببناء نهجه في التعامل مع تنظيم الفضاء الإلكتروني على مبدأين أساسيين: المنافسة في السوق الداخلية وخصوصية المُستخدمين. ونظرًا إلى القوة السوقية والتنظيمية الكبيرة والثرية للاتحاد الأوروبي، أدت قواعده المُتعلقة بالمنافسة وحماية البيانات إلى ظهور ما يُسمى بـ "تأثير بروكسل". لا تمتثل شركات التكنولوجيا العملاقة متعددة الجنسيات لقواعد الاتحاد الأوروبي من أجل القيام بأعمال تجارية في أوروبا فحسب، بل أيضًا لتجنب الاضطرار إلى التعامل مع قواعد تنظيمية متعددة، وكثيرًا ما تعمل على دمجها في عملياتها العالمية - بما في ذلك في البلدان ذات المعايير التنظيمية الأقل صرامة.
ومع ذلك، يجب أن تتضمن أوروبا الرقمية ركيزة ثالثة: الأمن. وكما جادل ولفجانج إيشينجر رئيس مؤتمر ميونيخ للأمن، يجب تطبيق مبدأ "الأمن من خلال التخطيط" ليس فقط على منتجات التكنولوجيا، ولكن أيضًا على وضع السياسات العامة. ومن خلال عملية بناء أوروبا الرقمية، يجب أن تستكمل حماية المنافسة في السوق الداخلية الاعتبارات المتعلقة بأمن الاتحاد الأوروبي والمركز العالمي للكتلة. وبالتالي، لا ينبغي للسياسة الرقمية العمل على تعزيز النمو الاقتصادي فحسب، بل وأيضًا حماية حقوقنا الأساسية - بشكل حاسم - كمواطنين وكذا حمايتنا من الجهات الفاعلة العدائية.
إن الأمن الرقمي ليس مجرد رغبة لدى المشرعين الأوروبيين. وطبقاً لدراسة استقصائية أجريت مؤخراً، فإن 38٪ من الأوروبيين يعتبرون الأمن الرقمي أولوية قصوى. وفي الاتحاد الأوروبي، يُشكل المواطنون والشركات نقطة البداية للتشريعات المتعلقة بالمسائل الرقمية. وكما ذكّرتنا مؤخرًا مفوضة شؤون المنافسة بالإتحاد الأوروبي مارغريت فيستاجر، يجب أن نتمتع بنفس الحقوق في العالم الرقمي كما هو الحال في العالم المادي. ولذلك يهدف قانون الأسواق الرقمية وقانون الخدمات الرقمية المقترحان من جانب المفوضية إلى ضمان أن تكون البيئة الأوروبية الإلكترونية محكومة بمبادئ المنافسة التي تقوم عليها السوق الداخلية، مع حماية خصوصية المستخدمين وبياناتهم الشخصية.
وفي هذه المرحلة، سيكون للحوار البناء بين المؤسسات العامة، والمجتمع المدني، والقطاع الخاص أهمية بالغة. وقبل كل شيء، يتطلب تشكيل أوروبا الرقمية الإرادة السياسية التي تُشكل في نهاية المطاف المُحرك الحقيقي للتكامل الأوروبي.
ومع ذلك، يجب أن تأخذ هذه المناقشات بعين الاعتبار الطبيعة المتغيرة للصراع في عالم اليوم. وكما أظهرت الأزمة الأوكرانية، فإن الأمن في القرن الحادي والعشرين له أبعاد عديدة.
مدريد ـ لقد نجح الأمن الأوروبي مُجددًا في بلوغ قمة الأجندة الجيوسياسية على مستوى العالم. فعلى الرغم من الجهود الدبلوماسية المُتواصلة لنزع فتيل الأزمة الأوكرانية، فقد تصاعدت التوترات والشكوك بين روسيا والغرب إلى مستويات لم نشهدها منذ الحرب الباردة. قد يفرض هذا الاتجاه إعادة النظر في الإطار الأمني الإقليمي الحالي، والذي يستند إلى ثلاث ركائز أساسية: الولايات المتحدة وروسيا وأوروبا.
لا شك في أن التصدي للتحدي الذي يُمثله الأمن الأوروبي سيُهيمن على المناقشات بين الزعماء السياسيين وخبراء العلاقات الدولية من كلا جانبي المحيط الأطلسي في مؤتمر ميونيخ للأمن (MSC) في نهاية هذا الأسبوع. ومع ذلك، بالإضافة إلى محنة أوكرانيا، فإن تأثير الابتكار التكنولوجي والرقمي على الأمن سيكون بارزًا أيضًا.
وتعكس التوترات الجيوسياسية المُستمرة بشأن أوكرانيا مفهومًا تقليديًا للأمن يغلب عليه الطابع الجغرافي في الغالب - والذي ينعكس في الاستخدام المتكرر لمصطلحات مثل "مناطق النفوذ"، و"توسع منظمة حلف شمال الأطلسي"، و "السلامة الإقليمية"، و "المجال الأمني في مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي". ولكن على الرغم من أن هذه المفردات ضرورية لفهم المواجهة الحالية بين حلف شمال الأطلسي وروسيا، فإن التغيرات الجيوسياسية الهائلة التي أحدثتها العولمة والتقدم التكنولوجي على مدى السنوات الخمس والعشرين الماضية سوف تحجب هذه المواجهة بشكل متزايد.
ويرجع ذلك إلى أن الاعتماد الجيوسياسي المُتبادل والابتكار التكنولوجي المُتواصل على ما يبدو قد غيّر طبيعة الصراع العالمي. وكما توضح "حروب التواصل"، وهي مجموعة من المقالات التي نشرها "المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية"، فإن فرط التواصل في النظام العالمي يمكّن الجهات الفاعلة - دون اللجوء إلى الحرب المفتوحة - من إحداث أضرار جسيمة في مجالات جيوسياسية أخرى، مثل الإنترنت، التي أصبحت اقتصاداتنا تعتمد عليها.
وبالتالي، لا ينبغي الاستهانة بالبعد الإلكتروني للمواجهة بشأن أوكرانيا. وفي يناير/ كانون الثاني الماضي، قام مجرمو الإنترنت بتعطيل العديد من مواقع الحكومة الأوكرانية لساعات ونشروا رسائل تهدد المواطنين الأوكرانيين وسرية بياناتهم الشخصية.
وفي وقت سابق، قدرت الحكومة الأمريكية أن الهجوم الإلكتروني "نوت بيتيا" لعام 2017 الذي استهدف أوكرانيا قد تسبب في أضرار عالمية بلغ مجموعها 10 مليارات دولار، مما يجعلها أكثر الهجمات تدميراً على الإطلاق. وقد أصابت هذه البرامج البرمجيات الخبيثة 10٪ من أنظمة الكمبيوتر في أوكرانيا قبل أن تنتشر في مختلف أنحاء العالم.
BLACK FRIDAY SALE: Subscribe for as little as $34.99
Subscribe now to gain access to insights and analyses from the world’s leading thinkers – starting at just $34.99 for your first year.
Subscribe Now
وكما حذر وزير الدفاع الأمريكي آنذاك ليون بانيتا في عام 2012، لا يمكننا أيضًا استبعاد الاحتمال البعيد ظاهريًا المُتمثل في هجوم "بيرل هاربور السيبراني" الذي يشل الهياكل الأساسية الحيوية في الولايات المتحدة. وفي كل الأحوال، أصبحت الهجمات الإلكترونية وعواقبها متكررة بشكل خطير، وما زلنا نفتقر إلى المؤسسات أو الهياكل الأساسية القوية بما يكفي لمواجهة هذا التهديد.
وفي كتابه "مستقبل القوة"، يُجادل جوزيف س. ناي جونيور من جامعة هارفارد بأن أحد الاتجاهات الرئيسية في القرن الحادي والعشرين تتمثل في فقدان الدول لنفوذها الجيوسياسي. يُشكل الفضاء الإلكتروني مثالًا واضحًا على ذلك. قد تتمتع القوى الرائدة بقدرة فريدة على التحكم في المجال البحري والجوي والفضاء الخارجي، لكنها لا تتمتع بهيمنة مماثلة في العالم الرقمي.
علاوة على ذلك، فإن طبيعة الفضاء الإلكتروني تعمل على خفض تكاليف العمل الهجومي إلى حد كبير. على سبيل المثال، تُعد تكاليف التعاقد مع مجرمي الإنترنت ضئيلة للغاية مقارنة بسعر طائرة مقاتلة من طراز F-35 البالغ 80 مليون دولار (ناهيك عن التكلفة الإضافية للصيانة والذخائر والموظفين).
وسوف تجرى المناقشات في مؤتمر ميونيخ للأمن بشأن الجانب الإلكتروني للأمن في إطار الأجندة الرقمية عبر المحيط الأطلسي، والتي اتخذت خطوة مهمة إلى الأمام العام الماضي عندما أنشأت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مجلس التجارة والتكنولوجيا. تتمثل القضية الأساسية في كيفية تنظيم المجال الرقمي بطريقة تسمح لنا بالاستفادة من إمكانياته الاقتصادية الهائلة، وفي الوقت نفسه، حماية أنفسنا من المخاطر المُحتملة التي يشكلها على ديمقراطياتنا.
لقد قام الاتحاد الأوروبي ببناء نهجه في التعامل مع تنظيم الفضاء الإلكتروني على مبدأين أساسيين: المنافسة في السوق الداخلية وخصوصية المُستخدمين. ونظرًا إلى القوة السوقية والتنظيمية الكبيرة والثرية للاتحاد الأوروبي، أدت قواعده المُتعلقة بالمنافسة وحماية البيانات إلى ظهور ما يُسمى بـ "تأثير بروكسل". لا تمتثل شركات التكنولوجيا العملاقة متعددة الجنسيات لقواعد الاتحاد الأوروبي من أجل القيام بأعمال تجارية في أوروبا فحسب، بل أيضًا لتجنب الاضطرار إلى التعامل مع قواعد تنظيمية متعددة، وكثيرًا ما تعمل على دمجها في عملياتها العالمية - بما في ذلك في البلدان ذات المعايير التنظيمية الأقل صرامة.
ومع ذلك، يجب أن تتضمن أوروبا الرقمية ركيزة ثالثة: الأمن. وكما جادل ولفجانج إيشينجر رئيس مؤتمر ميونيخ للأمن، يجب تطبيق مبدأ "الأمن من خلال التخطيط" ليس فقط على منتجات التكنولوجيا، ولكن أيضًا على وضع السياسات العامة. ومن خلال عملية بناء أوروبا الرقمية، يجب أن تستكمل حماية المنافسة في السوق الداخلية الاعتبارات المتعلقة بأمن الاتحاد الأوروبي والمركز العالمي للكتلة. وبالتالي، لا ينبغي للسياسة الرقمية العمل على تعزيز النمو الاقتصادي فحسب، بل وأيضًا حماية حقوقنا الأساسية - بشكل حاسم - كمواطنين وكذا حمايتنا من الجهات الفاعلة العدائية.
إن الأمن الرقمي ليس مجرد رغبة لدى المشرعين الأوروبيين. وطبقاً لدراسة استقصائية أجريت مؤخراً، فإن 38٪ من الأوروبيين يعتبرون الأمن الرقمي أولوية قصوى. وفي الاتحاد الأوروبي، يُشكل المواطنون والشركات نقطة البداية للتشريعات المتعلقة بالمسائل الرقمية. وكما ذكّرتنا مؤخرًا مفوضة شؤون المنافسة بالإتحاد الأوروبي مارغريت فيستاجر، يجب أن نتمتع بنفس الحقوق في العالم الرقمي كما هو الحال في العالم المادي. ولذلك يهدف قانون الأسواق الرقمية وقانون الخدمات الرقمية المقترحان من جانب المفوضية إلى ضمان أن تكون البيئة الأوروبية الإلكترونية محكومة بمبادئ المنافسة التي تقوم عليها السوق الداخلية، مع حماية خصوصية المستخدمين وبياناتهم الشخصية.
وفي هذه المرحلة، سيكون للحوار البناء بين المؤسسات العامة، والمجتمع المدني، والقطاع الخاص أهمية بالغة. وقبل كل شيء، يتطلب تشكيل أوروبا الرقمية الإرادة السياسية التي تُشكل في نهاية المطاف المُحرك الحقيقي للتكامل الأوروبي.
ومع ذلك، يجب أن تأخذ هذه المناقشات بعين الاعتبار الطبيعة المتغيرة للصراع في عالم اليوم. وكما أظهرت الأزمة الأوكرانية، فإن الأمن في القرن الحادي والعشرين له أبعاد عديدة.