36b8520346f86f100fb4c101_dr3606.jpg Dean Rohrer

الأزمة على الطريقة الفرنسية

باريس ـ إن فرنسا تعيش الآن حالة من الارتباك والفوضى. فطبقاً لاستطلاعات الرأي أصبحت شعبية نيكولا ساركوزي عند أدنى مستوى بلغته شعبية أي رئيس فرنسي طيلة عقود من الزمان. وفي الأسبوع الماضي استقال وزيران، ولكن العاصفة البرلمانية والإعلامية ظلت مستعرة، تغذيها اتهامات تضارب المصالح الموجهة إلى الوزير الذي اشتُبه في فساده عندما ساعد في جمع الأموال لتمويل حملة ساركوزي الانتخابية.

إن بعض الوزراء لا يبالون كثيراً بتصورات الرأي العام حين يستخدمون الأموال العامة، ومن الواضح أن المناخ السياسي الفرنسي أصبح ساما. فقد أصبحت الأجواء البرلمانية بغيضة إلى الحد الذي قد يكون كافياً لإسقاط الحكومة في تصويت على سحب الثقة. ولكن الدستور الذي أسسه الجنرال شارل ديجول قوي، وسوف يظل ساركوزي محتفظاً بمنصبه إلى نهاية ولايته في عام 2012. فضلاً عن ذلك فأن التوقعات الانتخابية الضعيفة للحزب الاشتراكي، وهو حزب المعارضة الرئيسي، تساعد ساركوزي إلى حد كبير.

إن حجم الأزمة السياسية في فرنسا يبدو غير متناسب على الإطلاق مع الوضع الحقيقي للبلاد. لا شك أن فرنسا لحق بها أشد الضرر من جراء الأزمة المالية العالمية ودورة الانحدار الاقتصادي. ولكن العواقب كانت على نحو ما أقل هولاً من نظيراتها في العديد من البلدان الأوروبية الأخرى.

فالآن تمر اليونان واثنتان من دول البلطيق الثلاث بأزمة مالية عميقة. وينطبق نفس الأمر تقريباً على البرتغال وأسبانيا والمجر وأيسلندا. وتظل بلدان مثل أيرلندا وبلجيكا وإيطاليا والمملكة المتحدة تحت التهديد، إما بسبب الديون العامة الضخمة أو العجز في الحساب الجاري. بيد أن أداء هولندا والنمسا ـ وبدرجة أقل ألمانيا وفرنسا ـ كان أفضل قليلا.

والوضع في ألمانيا أقل حدة في الأمد القريب مقارنة بفرنسا. فميزانها التجاري إيجابي، ودينها العام الإجمالي ليس على نفس القدر من الارتفاع الذي بلغه في بلدان أخرى. ورغم البطالة المرتفعة والنمو المنخفض فإن ألمانيا لا تواجه تهديداً فيما يتصل باستقرار الاقتصاد الكلي في الأمد القريب، ولو أنها تعاني من الانحدار السكاني والشيخوخة السكانية، الأمر الذي يشير إلى نشوء تحديات ضخمة في العقود المقبلة.

أما في فرنسا فإن الوضع في الأمد القريب أكثر مدعاة للقلق، حيث تجاوزت نسبة العجز المالي 6% من الناتج المحلي الإجمالي، وأصبح الميزان التجاري سلبياً، أما الدين العام ـ ولو أنه أدنى من نظيره في أي من البلدان الأوروبية الأخرى باستثناء ألمانيا وهولندا ـ فقد بلغ 80% من الناتج المحلي الإجمالي. والآن باتت فرنسا في حاجة ماسة إلى الإصلاحات البنيوية ـ وبالتالي إلى حكومة قوية.

PS_Sales_BacktoSchool_1333x1000_Promo

Don’t go back to school without Project Syndicate! For a limited time, we’re offering PS Digital subscriptions for just $50.

Access every new PS commentary, our suite of subscriber-exclusive content, and the full PS archive.

Subscribe Now

إن السلوك غير الأخلاقي من جانب المسؤولين ـ منشأ الأزمة الراهنة ـ غير مقبول بطبيعة الحال. ولكن لو كان النمو أعلى وكانت معدلات البطالة في انخفاض فما كنا لنشهد هذا القدر من الدراما في التعامل مع فضائح من هذا القبيل.

ولكن هناك عاملان يكثفان الضغوط المفروضة على ساركوزي. الأول أن الرأي العام بات واعياً على نحو متزايد إلى الاحتياج الملح للسياسات العاجلة والمباشرة في التعامل مع أمور مثل معاشات التقاعد ومستحقات الرعاية الصحية وتنظيم الدولة.

والعامل الثاني أن الفرنسيين أصبحوا في العقود الأخيرة أكثر تشاؤماً بنسبة 10% إلى 20% مقارنة ببقية شعوب العالم حين يُسألون عن مدى سعادتهم أو تطلعاتهم بشأن مستقبلهم أو مستقبل فرنسا. وليست المشكلة أن اقتصاد السوق أصبح أقل شعبية في فرنسا مقارنة بكل بلدان أوروبا الأخرى أو الولايات المتحدة فحسب، بل إنه أصبح أقل شعبية مقارنة بروسيا والصين!

ولكن هل يكون المستقبل أكثر تبشيراً بالخير؟ لا شك أن كافة البلدان الناشئة سوف ترد على هذا السؤال بالإيجاب. وهو نفس رد غالبية ضخمة في الولايات المتحدة وأوروبا. ولكن الأغلبية في فرنسا سوف ترد على نفس السؤال بالسلب. وهذا التشاؤم العميق يعمل ضد مصلحة أي حوار عام أو محاولة للإصلاح، ويبالغ في تقدير حجم الأزمة السياسية الحالية.

منذ تم إنشاء شركات استطلاع الرأي في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، ثم في فرنسا في ثلاثينيات القرن العشرين، كانت هذه الشركات تطرح أسئلة عن السعادة والمواقف من المستقبل. وفي البداية كان الفرنسيون يعطون نفس الإجابة التي يعطيها الآخرون. ولكن في يونيو/حزيران من عام 1940 سقطت السماء على رؤوسهم. فقد شهد ذلك البلد الشديد المركزية، الفخور بمبادئه، حيث أهمية الدولة أعظم من أهميتها في أي مكان آخر وحيث نجحت المؤسسة العسكرية في الفوز بالعديد من الحروب، شهد انهياراً تاماً للدولة والمؤسسة العسكرية في غضون أسبوعين فقط. وقدمت الحكومة غير المنتخبة التي استسلمت لهتلر مستقبلاً تابعاً ذليلاً محدود الأفق لفرنسا.

ولم يتعاف الشعب الفرنسي حقاً من تلك الصدمة. فعلى الرغم من الولادة الجديدة الجميلة بعد الحرب، ظلت الهزيمة المعنوية تقض مضجع أهل النخبة وظل تردد النظام السياسي قائما. لقد أصبح التشاؤم الرهيب مستديماً، الأمر الذي جعل التوصل إلى الإجماع أمراً شبه مستحيل ـ وهو الطريق المسدود الذي تفاقم سوءاً بفعل عدم نضوج المجتمع المدني في فرنسا.

علينا إذن أن نتوقع صدمات كبرى. إن موازنة التخفيضات في الإنفاق العام من أجل تجنب تعريض النمو وتشغيل الأيدي العاملة للخطر يتطلب وجود حكومة مستقرة وذكية ـ كما يتطلب الوقت. والواقع أن استجابة المملكة المتحدة وألمانيا لهذه الاحتياجات كانت جيدة. ولكن هل تستطيع فرنسا أن تستجيب لها بنفس القدر من النجاح؟

لقد أثبت الشعب الفرنسي الغاضب المتذمر العنيد أكثر من مرة قدرته على الإفاقة والوقوف على قدميه من جديد. فقد ولِد التنوير في فرنسا. وهناك الثورة الفرنسية، وملحمة نابليون، ومعركة المارن ـ التي انتصر فيها الجيش الفرنسي في عام 1914 بفضل المبادرة العفوية حين فشلت الحكومة والدولة ـ وعهد الإحياء العظيم أثناء الفترة 1945-1950.

تتمتع فرنسا أيضاً بمعدلات مواليد أعلى من كافة البلدان الأوروبية الأخرى، وهي الدولة الوحيدة التي تتجدد بمرور كل جيل. وقبل ثلاثين عاماً لم تكن هناك مؤسسة فرنسية واحدة بين أفضل مائة مؤسسة على مستوى العالم، في حين أصبح لها الآن على هذه القائمة خمس عشرة مؤسسة. وما زال نظام التعليم والرعاية الصحية في فرنسا ـ على الرغم من الصعوبات ـ من بين أفضل الأنظمة على مستوى العالم. وما زال مفكروها ومثقفوها وعلماؤها مبدعين، ومن بين الأفضل على الإطلاق في العديد من الميادين.

لذا، لا تجهزوا كفن فرنسا الآن. فقد يتعرض الفرنسيون لصدمات كبرى في الأعوام المقبلة، ولكن فرنسا قد تكون الدولة الأوروبية الوحيدة الواقفة على قدميها بفخر وكبرياء بعد ثلاثين عاماً من الآن.

https://prosyn.org/5i9y4Ldar