dixon1_ Polly ThomasGetty Images_old man Polly Thomas/Getty Images

"غير المرئيين" في الجائحة

لندن/باريس ــ بدأت جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (COVID-19) في وقت حيث كانت الثقة في المؤسسات عند أدنى مستوياتها على الإطلاق. كانت السياسة مستقطبة والتماسك الاجتماعي متهالكا. ولهذا السبب، يتعين على الحكومات، في اندفاعها إلى توجيه موارد ضخمة إلى الأسر والشركات، أن لا تهمل تلك المجتمعات المحلية حيث تتقاطع الأزمة الصحية وتداعياتها الاقتصادية بشكل شديد الوضوح.

بينما يجتمع قادة مجموعة العشرين عبر شبكة الإنترنت هذا الأسبوع لتنسيق الاستجابة لجائحة مرض فيروس كورونا 2019، يبدو من المرجح أن تتجاوز حِدة هبوط الناتج المحلي الإجمالي العالمي المتوقع في الأشهر المقبلة الانكماش الذي حدث خلال فترة الركود العظيم بعد عام 2008. على النقيض من الأزمة المالية العالمية التي أشعلت شرارة ذلك الانكماش، فإن الجائحة تهدد بإغلاق قطاعات كاملة من الاقتصادات في مختلف أنحاء العالم. ونحن ببساطة ليس لدينا أي سابقة لمثل هذا التوقف المفاجئ المتزامن لقسم كبير من كل هذا العدد من الاقتصادات.

كانت الاستجابات المحلية لأزمة الركود العظيم منقوصة. فقد ساعدت عمليات الإنقاذ في تثبيت استقرار المؤسسات المالية والمراكز الحضرية في حين تركت الملايين في المناطق الريفية وشبه الريفية منبوذين بالعراء. ومع تسبب برامج التقشف وتكنولوجيات التشغيل الآلي (الأتمتة) في تآكل أي احتمال لحياة أفضل في المجتمعات غير الحضرية، بدأ يترسخ شعور بالظلم والإجحاف. واستغل الشعبويون هذه المظالم، فعملوا على تحريض المواطنين على معاداة المهاجرين، واللاجئين، ووسائل الإعلام، و"المؤسسة"، والخبراء بأشكالهم كافة.

لتجنب تكرار هذه الأخطاء، ينبغي لنا أن نحرص على معالجة المشاكل المحيطة برأس المال الاقتصادي والاجتماعي في هذه المجتمعات المهجورة. لقد حفزت فاشية مرض فيروس كورونا 2019 الآلاف من الجهود المجتمعية حول العالم ــ في الشوارع، والمجمعات السكنية، وفي مجموعات واتساب وفيسبوك في كل جيرة. تقدم هذه المبادرات الدعم العملي للأشخاص المعزولين والأكثر عُرضة لخطر الفيروس. ويقدم الإيطاليون الذين يغنون في الشرفات وغير ذلك من أمثلة الكرم والروح المجتمعية لحظات مشرقة في هذه الأوقات العصيبة المظلمة.

لكن الشبكات المجتمعية أضعف كثيرا في الأماكن حيث من المتوقع أن تشتد الحاجة إليها قريبا. على مدار السنوات الثلاث الماضية، كانت مؤسسة More in Common، وهو منظمة غير حكومية نتولى قيادتها، تقوم بإعداد التقارير والدراسات حول الصدوع والانقسامات الاجتماعية في الديمقراطيات الغربية. وقد وجدت دراساتنا في كل بلد شريحة من "غير المرئيين" الذين يشعرون أن مجتمعاتهم تتجاهلهم. لا يميز "غير المرئيين" هؤلاء فئة دخل محددة، أو فئة عمرية، أو عِرقية، أو جنسية (ذكر أو أنثى)، ولا يعتنقون أي معتقدات سياسية بعينها، بل يميزهم انسحابهم من المجتمع.

مقارنة بغيرهم، يُـعَـد غير المرئيين أكثر ميلا إلى الارتياب في الناس والمؤسسات بأشكالها كافة. وهم معرضون أكثر من أي مجموعة ديموغرافية (سكانية) أخرى للسرد الاستقطابي من قبيل "نحن-ضد-هم" الذي يؤجج الصراع الاجتماعي. وهذا أمر بالغ الخطورة في أوقات الأزمات. ولا يمثل غير المرئيون مجموعة صغيرة. فهم يشكلون نحو ثلث مجموع السكان في فرنسا، وألمانيا، والولايات المتحدة.

Go beyond the headlines with PS - and save 30%
kamala-trump-1333x1000

Go beyond the headlines with PS - and save 30%

As the US presidential election nears, stay informed with Project Syndicate - your go-to source of expert insight and in-depth analysis of the issues, forces, and trends shaping the vote. Subscribe now and save 30% on a new Digital subscription.

Subscribe Now

من المؤكد أن التغير الاقتصادي ألحق أشد الضرر بهؤلاء الناس، وقد تسبب تراجع فرص العمل في دفع كثيرين إلى الخوف من عدم قدرتهم على التنافس مع المهاجرين الذين يقبلون العمل بأجور أقل. لكن هؤلاء الأفراد يشعرون بالإقصاء اجتماعيا أيضا. وهم أكثر ميلا إلى الشعور بالوحدة، والافتقار إلى الاحترام، وعدم الانتماء. ومن خلال استغلال غضبهم، وإحباطهم، وإحساسهم بالعجز، استولى الشعبويون على السلطة في العديد من البلدان، أو اقتربوا من الاستيلاء عليها.

يتلخص المطلوب لجعل حزم الإنقاذ التي تبلغ قيمتها تريليون دولار فعّالة وتجنب الأخطاء الجسيمة التي ارتُـكِـبَـت أثناء أزمة الركود العظيم في بذل جهد مواز لتعزيز التماسك الاجتماعي في الدول المتقدمة والنامية على حد سواء. ومن الممكن أن تبدأ دول مجموعة العشرين بالتعهد بتقديم سنت واحد للصناديق المجتمعية التي تستهدف المناطق التي تفتقر إلى رأس المال الاجتماعي في مقابل كل دولار يستثمر في دعم الاقتصادات.

من الممكن أن توفر مثل هذه الأموال الموارد على نطاق صغير لتعزيز وإعادة بناء الحياة والتواصل المجتمعي، مع التركيز بشكل خاص على "غير المرئيين" الذين سيتحملون وطأة الإغلاق الاقتصادي وتدابير التباعد الاجتماعي. إن الأزمات على النطاق الذي نشهده الآن من الممكن أن تترك المجتمعات أشد انقساما، لكنها توفر أيضا الفرصة لجمع الناس معا وتوحيدهم.

تتجاوز القيمة الإجمالية لتدخلات مجموعة العشرين في التصدي لمرض فيروس كورونا 2019 وتبعاته قيمة خطة مارشال بعد الحرب العالمية الثانية. قبل خمسة وسبعين عاما، كانت الاقتصادات محطمة، وتحول الملايين إلى لاجئين، وساد اليأس. وكانت خطة الجنرال جورج مارشال لإعادة بناء المجتمعات والاقتصادات مأثرة من التعاون بين الولايات المتحدة وأوروبا.

كانت دعوة مارشال القوية الواضحة عند إطلاق الخطة في عام 1947 تركز على "إحياء اقتصاد عامل في العالم للسماح بظهور الظروف السياسية والاجتماعية التي تسمح بوجود المؤسسات الحرة". لقد تعلم مارشال من أخطاء عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين أن المجتمعات الضعيفة، عندما تُـتـرَك مقسمة، تستسلم لإغواء الاستبداد.

في التحضير لمستقبل ما بعد الجائحة، ينبغي لقادة مجموعة العشرين أن ينتبهوا إلى هذا الدرس. لقد بُـنـي الرخاء الذي أصبح ممكنا لأطفال خطة مارشال ــ الذين باتوا الآن في السبعينات والثمانينات من عمرهم، وهم بالتالي الأكثر تعرضا لتهديد فيروس كورونا ــ على أسس اقتصادية واجتماعية شاملة. ولكي يتسنى لنا أن ننجو من هذه الجائحة دون أن نفقد الأمل، يتعين علينا أن نعيد البناء، ليس فقط لصالح بعض الناس بل من أجل الجميع.

ترجمة: مايسة كامل          Translated by: Maysa Kamel

https://prosyn.org/jSwwBdfar