يورك ــ يتذكر كثيرون منا سبعينيات القرن العشرين بموسيقاها وأزيائها، ولكن ينبغي لنا أيضا أن نأخذ العِبرة من معتقدات السبعينيات الخاطئة. فمع صعوبة الوصول إلى البيانات أو تحليلات الاتجاهات الاجتماعية، كانت بعض الأفكار حول الكيفية التي تعمل بها الطبيعة والمجتمع شديدة الرجعية والتخلف. واليوم بِتنا نعلم عن أشياء لم يكن لدينا ببساطة أي سبيل لمعرفتها آنذاك.
فإذا سألت الأطباء في السبعينيات من كان الأكثر عُرضة للإصابة بالنوبات القلبية، فإنك كنت لتجدهم يشتركون في حدس واحد حول "الإجهاد الوظيفي". فكان من المعتقد أن الأشخاص الذين يشغلون مناصب قيادية عليا يواجهون قدرا أعلى من مخاطر الإصابة بأمراض الشريان التاجي بسبب المطالِب المرهقة التي تفرضها وظائفهم.
ثُم تبين أنه لا وجود لما يُسمى الإجهاد الوظيفي، وأن أمراض القلب أكثر شيوعا ــ وفتكا ــ بين الناس الذين يحتلون مرتبة أدنى كثيرا على السلم الاجتماعي الاقتصادي. والآن يعرف الساسة وصناع السياسات (والأطباء بطبيعة الحال) الكثير عن فجوات التفاوت في الصحة والرابط بين الوضع الاجتماعي ونسبة انتشار المرض، ولو أنهم لا يتصرفون دائما بشكل فعّال لمعالجة هذا التفاوت.
في المملكة المتحدة، يعود هذا الاكتشاف إلى عام 1980، عندما نشرت وزارة الصحة والضمان الاجتماعي تقرير فريق العمل حول التفاوت في الصحة. عَقَد تقرير بلاك، كما أصبح معروفا (على اسم رئيسه السير دوجلاس بلاك من الكلية الملكية للأطباء)، مقارنة منهجية بين كل البيانات المتاحة عن الحالة الاقتصادية الاجتماعية والنتائج الصحية. وقد تبين أن الرجال المنتمين إلى المجموعة الاقتصادية الاجتماعية الأدنى يموتون بمعدل يبلغ ضِعف المعدل بين الرجال المنتمين إلى المجموعة الأعلى، وأن الفجوة كانت في اتساع، برغم إنشاء مصلحة الصحة الوطنية.
أصدرت حكومة حزب العمال بقيادة رئيس الوزراء جيمس كالاهان تكليف تقرير بلاك في عام 1977، ولكن بحلول وقت نشره، كانت حكومة المحافظين الجديدة بقيادة رئيسة الوزراء مارجريت تاتشر تولت السلطة. ووفقا للمجلة الطبية البريطانية، في نعيها لبلاك عام 2002، "لم يكن تقرير بلاك موافقا لهوى السيدة تاتشر ولم يُطبَع قط؛ بل تم توزيع 260 نسخة مصورة منه بطريقة تعوزها الحماسة خلال عُطلة مصرفية في يوم الاثنين". ورغم أن "التقرير خلف تأثيرا كبيرا على الفِكر السياسي في المملكة المتحدة وخارجها" ــ فدفع منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ومنظمة الصحة العالمية إلى تقييم النتائج الصحية غير المتكافئة في 13 دولة ــ فإن هذا لم يمتد إلى "سياسة حكومة المملكة المتحدة".
وبينما كانت حكومة تاتشر تدفن تقرير بلاك وتتظاهر بأن التفاوت في الصحة لا وجود له (وأن "المجتمع" ذاته لا وجود له في واقع الأمر)، فإنها كانت تلاحق أيضا سياسات اقتصادية نيوليبرالية تفتقر إلى أي أدلة تدعمها. وشملت هذه التدابير خفض الإنفاق العام وخصخصة الخدمات العامة، وخفض الضرائب، وإلغاء القيود التنظيمية المالية، واتفاقيات التجارة الحرة.
في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، وَعَد المدافعون عن النيوليبرالية بأن تبني الحلول المستندة إلى السوق من شأنه أن يطلق العنان للنمو الاقتصادي، فيولد موجة المد المتصاعدة التي "ترفع القوارب". ولكن مثلها كمثل الإجهاد الوظيفي، كانت هذه الظاهرة محض سراب. بيد أن هذا لم يمنع تاتشر والرئيس الأميركي رونالد ريجان من ملاحقة الأجندة التي عطلت صحة ورفاهة الملايين من البشر. وفي مواجهة فجوة التفاوت المتزايدة الاتساع، كانا يريان في الفجوة بين الأثرياء والفقراء مجرد أثر جانبي، بل وربما حتى حافزا للابتكار، والطموح، والإبداع بين أولئك الذين يحتلون أسفل المراتب على السلم الاقتصادي الاجتماعي.
ولكنهما كانا على خطأ في ذلك أيضا. فحتى قبل الأزمة المالية العالمية عام 2008، كانت النيوليبرالية تتسبب في إحداث ما أسماه تيد شريكر وكلير بامبرا من جامعة دورهام "أوبئة النيوليبرالية". وكما أثبت شريكر وبامبرا وغيرهما كثيرون فقد خلف اتساع فجوة التفاوت في الدخول تأثيرات شديدة التدمير وبعيدة المدى على كل شيء من الثقة والتماسك الاجتماعي إلى معدلات الجريمة العنيفة والسَجن، والتحصيل التعليمي، والحراك الاجتماعي. ويبدو أن التفاوت يؤدي إلى تفاقم سوء النتائج الصحية، وتراجع متوسط العمر المتوقع، وزيادة معدلات الأمراض العقلية والسِمنة، بل وحتى زيادة انتشار فيروس نقص المناعة البشرية.
إن التفاوت العميق في الدخل يعني أن المجتمع منظم وفقا لتسلسل هرمي قائم على الثروة. ومثل هذا النظام يمنح القوة الاقتصادية وكذا السياسية لأولئك المتربعين على القمة ويساهم في فرض الشعور بالعجز على بقية الناس. وفي نهاية المطاف، يتسبب هذا في إحداث المشاكل ليس فقط للفقراء، بل وأيضا للأثرياء.
من بين مشاكل الماضي أن التفاوت في الدخل ــ وارتباطه بالمشاكل الاجتماعية والصحية ــ كان موضع تجاهل بالمقارنة بمقاييس الثروة الوطنية، مثل متوسط الدخل (نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي. ولكن كما أدرك اقتصاديون بارزون ومؤسسات مثل صندوق النقد الدولي والمنتدى الاقتصادي العالمي اليوم فإن التفاوت في الدخل مشكلة بالغة الخطورة وتهدد الاستقرار الاقتصادي وأيضا النمو.
الواقع أن التحليل الدقيق للبيانات الإحصائية كشف زيف فِكرة مفادها أن المسؤولين التنفيذيين المجهدين أكثر عُرضة للنوبات القلبية. والآن كشف التحليل الدقيق زيف أسطورة الثمانينيات التي جعلت "الجشع أمرا طيبا"، كما كشف عن الضرر الشديد الذي يُحدِثُه التفاوت بين الناس. كان من الوارد تصديق مثل هذه الخرافات قبل عقود من الزمن، ولكن عندما تُثبِت الخبرة وكل الأدلة المتاحة أنها غير صحيحة، فهذا هو وقت إحداث التغيير.
ذات يوم، قال الفيلسوف الروماني شيشرون: "أي رجل قد يرتكب أخطاء، ولكن الأحمق فقط هو الذي يُصِر على الخطأ". والآن بعد أن بتنا نعلم أن التفاوت بين الناس يلحق الضرر بصحة المجتمعات، والأفراد، والاقتصادات، فلابد أن يكون الحد من التفاوت بين الناس على رأس أولوياتنا. وكل من يدافع عن سياسات تعمل على زيادة التفاوت بين الناس وتهدد رفاهة مجتمعاتنا فهو يتعامل معنا باعتبارنا مجموعة من الحمقى.
ترجمة: إبراهيم محمد علي Translated by: Ibrahim M. Ali
يورك ــ يتذكر كثيرون منا سبعينيات القرن العشرين بموسيقاها وأزيائها، ولكن ينبغي لنا أيضا أن نأخذ العِبرة من معتقدات السبعينيات الخاطئة. فمع صعوبة الوصول إلى البيانات أو تحليلات الاتجاهات الاجتماعية، كانت بعض الأفكار حول الكيفية التي تعمل بها الطبيعة والمجتمع شديدة الرجعية والتخلف. واليوم بِتنا نعلم عن أشياء لم يكن لدينا ببساطة أي سبيل لمعرفتها آنذاك.
فإذا سألت الأطباء في السبعينيات من كان الأكثر عُرضة للإصابة بالنوبات القلبية، فإنك كنت لتجدهم يشتركون في حدس واحد حول "الإجهاد الوظيفي". فكان من المعتقد أن الأشخاص الذين يشغلون مناصب قيادية عليا يواجهون قدرا أعلى من مخاطر الإصابة بأمراض الشريان التاجي بسبب المطالِب المرهقة التي تفرضها وظائفهم.
ثُم تبين أنه لا وجود لما يُسمى الإجهاد الوظيفي، وأن أمراض القلب أكثر شيوعا ــ وفتكا ــ بين الناس الذين يحتلون مرتبة أدنى كثيرا على السلم الاجتماعي الاقتصادي. والآن يعرف الساسة وصناع السياسات (والأطباء بطبيعة الحال) الكثير عن فجوات التفاوت في الصحة والرابط بين الوضع الاجتماعي ونسبة انتشار المرض، ولو أنهم لا يتصرفون دائما بشكل فعّال لمعالجة هذا التفاوت.
في المملكة المتحدة، يعود هذا الاكتشاف إلى عام 1980، عندما نشرت وزارة الصحة والضمان الاجتماعي تقرير فريق العمل حول التفاوت في الصحة. عَقَد تقرير بلاك، كما أصبح معروفا (على اسم رئيسه السير دوجلاس بلاك من الكلية الملكية للأطباء)، مقارنة منهجية بين كل البيانات المتاحة عن الحالة الاقتصادية الاجتماعية والنتائج الصحية. وقد تبين أن الرجال المنتمين إلى المجموعة الاقتصادية الاجتماعية الأدنى يموتون بمعدل يبلغ ضِعف المعدل بين الرجال المنتمين إلى المجموعة الأعلى، وأن الفجوة كانت في اتساع، برغم إنشاء مصلحة الصحة الوطنية.
أصدرت حكومة حزب العمال بقيادة رئيس الوزراء جيمس كالاهان تكليف تقرير بلاك في عام 1977، ولكن بحلول وقت نشره، كانت حكومة المحافظين الجديدة بقيادة رئيسة الوزراء مارجريت تاتشر تولت السلطة. ووفقا للمجلة الطبية البريطانية، في نعيها لبلاك عام 2002، "لم يكن تقرير بلاك موافقا لهوى السيدة تاتشر ولم يُطبَع قط؛ بل تم توزيع 260 نسخة مصورة منه بطريقة تعوزها الحماسة خلال عُطلة مصرفية في يوم الاثنين". ورغم أن "التقرير خلف تأثيرا كبيرا على الفِكر السياسي في المملكة المتحدة وخارجها" ــ فدفع منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ومنظمة الصحة العالمية إلى تقييم النتائج الصحية غير المتكافئة في 13 دولة ــ فإن هذا لم يمتد إلى "سياسة حكومة المملكة المتحدة".
وبينما كانت حكومة تاتشر تدفن تقرير بلاك وتتظاهر بأن التفاوت في الصحة لا وجود له (وأن "المجتمع" ذاته لا وجود له في واقع الأمر)، فإنها كانت تلاحق أيضا سياسات اقتصادية نيوليبرالية تفتقر إلى أي أدلة تدعمها. وشملت هذه التدابير خفض الإنفاق العام وخصخصة الخدمات العامة، وخفض الضرائب، وإلغاء القيود التنظيمية المالية، واتفاقيات التجارة الحرة.
BLACK FRIDAY SALE: Subscribe for as little as $34.99
Subscribe now to gain access to insights and analyses from the world’s leading thinkers – starting at just $34.99 for your first year.
Subscribe Now
في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، وَعَد المدافعون عن النيوليبرالية بأن تبني الحلول المستندة إلى السوق من شأنه أن يطلق العنان للنمو الاقتصادي، فيولد موجة المد المتصاعدة التي "ترفع القوارب". ولكن مثلها كمثل الإجهاد الوظيفي، كانت هذه الظاهرة محض سراب. بيد أن هذا لم يمنع تاتشر والرئيس الأميركي رونالد ريجان من ملاحقة الأجندة التي عطلت صحة ورفاهة الملايين من البشر. وفي مواجهة فجوة التفاوت المتزايدة الاتساع، كانا يريان في الفجوة بين الأثرياء والفقراء مجرد أثر جانبي، بل وربما حتى حافزا للابتكار، والطموح، والإبداع بين أولئك الذين يحتلون أسفل المراتب على السلم الاقتصادي الاجتماعي.
ولكنهما كانا على خطأ في ذلك أيضا. فحتى قبل الأزمة المالية العالمية عام 2008، كانت النيوليبرالية تتسبب في إحداث ما أسماه تيد شريكر وكلير بامبرا من جامعة دورهام "أوبئة النيوليبرالية". وكما أثبت شريكر وبامبرا وغيرهما كثيرون فقد خلف اتساع فجوة التفاوت في الدخول تأثيرات شديدة التدمير وبعيدة المدى على كل شيء من الثقة والتماسك الاجتماعي إلى معدلات الجريمة العنيفة والسَجن، والتحصيل التعليمي، والحراك الاجتماعي. ويبدو أن التفاوت يؤدي إلى تفاقم سوء النتائج الصحية، وتراجع متوسط العمر المتوقع، وزيادة معدلات الأمراض العقلية والسِمنة، بل وحتى زيادة انتشار فيروس نقص المناعة البشرية.
إن التفاوت العميق في الدخل يعني أن المجتمع منظم وفقا لتسلسل هرمي قائم على الثروة. ومثل هذا النظام يمنح القوة الاقتصادية وكذا السياسية لأولئك المتربعين على القمة ويساهم في فرض الشعور بالعجز على بقية الناس. وفي نهاية المطاف، يتسبب هذا في إحداث المشاكل ليس فقط للفقراء، بل وأيضا للأثرياء.
من بين مشاكل الماضي أن التفاوت في الدخل ــ وارتباطه بالمشاكل الاجتماعية والصحية ــ كان موضع تجاهل بالمقارنة بمقاييس الثروة الوطنية، مثل متوسط الدخل (نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي. ولكن كما أدرك اقتصاديون بارزون ومؤسسات مثل صندوق النقد الدولي والمنتدى الاقتصادي العالمي اليوم فإن التفاوت في الدخل مشكلة بالغة الخطورة وتهدد الاستقرار الاقتصادي وأيضا النمو.
الواقع أن التحليل الدقيق للبيانات الإحصائية كشف زيف فِكرة مفادها أن المسؤولين التنفيذيين المجهدين أكثر عُرضة للنوبات القلبية. والآن كشف التحليل الدقيق زيف أسطورة الثمانينيات التي جعلت "الجشع أمرا طيبا"، كما كشف عن الضرر الشديد الذي يُحدِثُه التفاوت بين الناس. كان من الوارد تصديق مثل هذه الخرافات قبل عقود من الزمن، ولكن عندما تُثبِت الخبرة وكل الأدلة المتاحة أنها غير صحيحة، فهذا هو وقت إحداث التغيير.
ذات يوم، قال الفيلسوف الروماني شيشرون: "أي رجل قد يرتكب أخطاء، ولكن الأحمق فقط هو الذي يُصِر على الخطأ". والآن بعد أن بتنا نعلم أن التفاوت بين الناس يلحق الضرر بصحة المجتمعات، والأفراد، والاقتصادات، فلابد أن يكون الحد من التفاوت بين الناس على رأس أولوياتنا. وكل من يدافع عن سياسات تعمل على زيادة التفاوت بين الناس وتهدد رفاهة مجتمعاتنا فهو يتعامل معنا باعتبارنا مجموعة من الحمقى.
ترجمة: إبراهيم محمد علي Translated by: Ibrahim M. Ali