6c274a0446f86f380e033d27_pa2190c.jpg

الصين كقوة عظمى

يالطا ـ نظراً للتطور السريع والناجح الذي شهدته جمهورية الصين الشعبية فقد بات من الواضح بما لا يدع مجالاً للشك أن الصين سوف تصبح واحدة من القوى العالمية المهيمنة في القرن الحادي والعشرين. بل وعلى الرغم من المشاكل الهائلة التي تواجه البلاد فقد تبرز الصين حتى بوصفها القوة العالمية الأولى.

ولكن من قبيل الخطأ الفادح أن نفترض أن عودة ظهور ما يطلق عليه "القوى العملاقة"، مثل الصين والهند، لابد وأن يشكل بالضرورة استمراراً للتقاليد الغربية. فسوف يظل لزاماً علينا أن نتعامل مع شكل مختلف من أشكال القوى العظمى.

منذ أبحرت القوى الأوروبية في نهاية القرن الخامس عشر لغزو العالم، تعود التأريخ الرسمي والسياسات الدولية على نمط معين: حيث تترجم القوى العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية إلى ممارسة النفوذ على بلدان أخرى، وغزوها، بل وحتى فرض الهيمنة العالمية وبناء الإمبراطوريات.

وكان هذا صادقاً بشكل خاص في القرن العشرين، عندما حلت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في أعقاب حربين عالميتين في محل القوى العالمية الأوروبية على الساحة العالمية. كما شهدنا نفس النمط أثناء الحرب الباردة وفترة الهيمنة الأميركية التي تلت أحداث 1989/1990.

ولكن في اعتقادي أن صعود الصين كقوة عالمية لن يتبع نفس النمط، وذلك بسبب عدد سكانها الهائل الذي يبلغ 1,2 مليار نسمة، والذي يهدد بإنهاك الهياكل التي يتألف منها أي شكل من أشكال نظم الحكم وصنع القرار. ويصدق هذا بشكل أوضح في أوقات التغيرات الجوهرية السريعة، كما هي الحال في الصين الآن.

إن الخطر الدائم المتمثل في إنهاك الهياكل السياسية الداخلية للبلاد من غير المرجح أن يسمح بأي دور إمبراطوري في السياسة الخارجية. وبقدر صحة هذه الحقيقة فإن الولايات المتحدة لن تستبدل كقوة مهيمنة ما لم تتخل عن ذلك الدور. وقد يبدو هذا بسيطاً، ولكنه سوف يخلف عواقب بعيدة المدى على النظام الدولي في القرن المقبل.

Introductory Offer: Save 30% on PS Digital
PS_Digital_1333x1000_Intro-Offer1

Introductory Offer: Save 30% on PS Digital

Access every new PS commentary, our entire On Point suite of subscriber-exclusive content – including Longer Reads, Insider Interviews, Big Picture/Big Question, and Say More – and the full PS archive.

Subscribe Now

والواقع أن المصالح الحيوية التي توجه السياسة الصينية تدور حول التحديث الداخلي، واستقرار وبقاء النظام السياسي، ووحدة البلاد (التي تتضمن تايوان). وهذه المصالح من غير المرجح أن تتغير لفترة طويلة.

ونتيجة لهذا فإن الصين سوف تصبح قوة عظمى مهتمة بالداخل إلى حد كبير، وهو على وجه التحديد السبب الذي من شأنه أن يجعلها تلاحق مصالحها الخارجية بطريقة غير عاطفية على الإطلاق. أما على الصعيد العسكري فإن الصين سوف تركز بشكل أساسي على تفوقها الإقليمي، وذلك لأن وحدة البلاد تعتمد على ذلك التفوق. ولكن من ناحية أخرى سوف يشكل تحول الاقتصاد الصيني والمجتمع الصيني أهمية بالغة، لأن استقرار النظام يعتمد على ذلك التحول.

وبالنسبة للقيادة الصينية فإن هذا يعني أن النمو بمعدل سنوي 10% تقريباً سوف يشكل ضرورة أساسية لفترة طويلة من الزمن. وإلا فإن تحول الصين السريع والجوهري من بلد زراعي إلى مجتمع صناعي فائق الحداثة لن يتسنى له أن يستمر من دون زعزعة استقرار النظام.

ولكن هذا التركيز على النمو الداخلي لابد وأن يخلف عواقب سياسية بالغة الضخامة، سواء على الصعيد المحلي أو على صعيد السياسة الخارجية. ففي الداخل سوف تكون الصين الدولة الأولى التي سوف تضطر نظراً لحجمها الهائل والنمو المطلوب للناتج المحلي الإجمالي إلى تبني اقتصاد "أخضر". وإلا فإن الصين سوف تصل سريعاً إلى "الحدود القصوى للنمو"، بكل ما ينطوي عليه ذلك من عواقب بيئية وسياسية مأساوية.

وبما أن الصين ستكون السوق الأكثر أهمية في المستقبل، فإنها سوف تشكل أهمية حاسمة في تحديد ليس فقط ما ننتجه ونستهلكه بل وأيضاً كيفية إنتاجنا له واستهلاكه. ولنتأمل هنا مسألة التحول من السيارة التقليدية إلى الاستعانة بالطاقة الكهربية. إن ذلك التحول سوف يتقرر في الصين وليس في الغرب، على الرغم من أوهام الأوروبيين التي تهيئ لهم العكس. وكل ما ستقرره صناعة السيارات الغربية المهيمنة عالمياً، فسوف يدور حول ما إذا كانت سوف تتكيف وتحظى بالفرصة للبقاء أم أنها سوف تنتهي إلى نفس المصير الذي انتهت إليه غيرها من الصناعات الغربية القديمة: إلى العالم النامي.

أما فيما يتصل بالسياسة الخارجية فإن الصين سوف تحاول حماية تحولها الداخلي من خلال تأمين الموارد والوصول إلى الأسواق الأجنبية. ولكن إن عاجلاً أو آجلاً سوف تدرك الحكومة الصينية أن الدور الذي تلعبه الولايات المتحدة باعتبارها جهة تنظيمية عالمية لا غنى عنها لتحقيق مصالح الصين الخارجية الحيوية، وذلك لأن الصين غير قادرة على الاضطلاع بهذا الدور، فضلاً عن عدم وجود لاعبين عالميين آخرين، وهذا يعني أن البديل الوحيد للولايات المتحدة هو انهيار النظام الدولي.

إن هذه العلاقة الترادفية بين الولايات المتحدة والصين لن تكون سلسة بأي حال من الأحوال، ولن يتجاوز تأثيرها تخفيف الأزمات وفترات المواجهة الاقتصادية والسياسية الخطيرة، كتلك التي تلوح في الأفق الآن فيما يتصل باختلال التوازن التجاري بين البلدين. ولكن على الصعيد الاستراتيجي سوف يكون لزاماً على الصين والولايات المتحدة أن تعتمد كل منهما على الأخرى لفترة طويلة. وهذا الاعتماد المتبادل سوف يتخذ لنفسه هيئة سياسية عند نقطة ما، وربما لا يوافق هذا هوى لاعبين دوليين آخرين، وخاصة الأوروبيين.

ولن يتسنى لأوروبا أن تغير مسار هذا التطور إلا إذا قدمت نفسها بوصفها لاعباً جاداً وبادرت إلى الانتصار لمصالحها على الساحة العالمية. وربما يصب هذا في مصلحة مجموعة الاثنين ـ الصين والولايات المتحدة. بيد أن أوروبا أضعف وأكثر انقساماً من أن تتمكن من ترك بصمتها على الساحة العالمية، بسبب عزوف قادتها عن انتهاج سياسة مشتركة قائمة على المصالح الاستراتيجية لبلدانهم.

https://prosyn.org/vK1EF3far