ve884c.jpg Chris Van Es

جاء دور بورما الآن

يانجون ــ هنا في ميانمار (بورما)، حيث كان التغيير السياسي بطيئاً إلى حد الخَدَر لمدة نصف قرن من الزمان، تحاول زعامة جديدة تبني التحول السريع من الداخل. فقد أفرجت الحكومة عن السجناء السياسيين، وأجرت الانتخابات (والمزيد منها قادم)، وبدأت الإصلاح الاقتصادي، وهي الآن تتودد بشكل مكثف إلى الاستثمار الأجنبي.

ومن المفهوم أن يظل المجتمع الدولي الذي عاقب النظام الاستبدادي في ميانمار لمدة طويلة حذرا. فقد كانت خطوات الإصلاح سريعة إلى الحد الذي جعل حتى التصرف في الصادرات الرائجة للبلاد أمراً معقدا.

ولكن من الواضح في تصوري أن هذه اللحظة في تاريخ ميانمار تمثل فرصة حقيقية للتغيير الدائم ــ الفرصة التي يتعين على المجتمع الدولي ألا يفوتها. فقد حان الوقت لكي يحرك العالم أجندة ميانمار إلى الأمام، ليس فقط من خلال تقديم المساعدات، بل وأيضاً برفع العقوبات التي أصبحت الآن عائقاً أمام تحول البلاد.

حتى الآن، كان هذا التحول الذي بدأ في أعقاب الانتخابات التشريعية في نوفمبر/تشرين الثاني 2010 مبهرا. فمع استحواذ المؤسسة العسكرية، التي احتفظت لنفسها بالسلطة بالكامل منذ عام 1962، على 25% من المقاعد، نشأت بعض المخاوف من أن تكون الانتخابات مجرد واجهة. ولكن الحكومة التي انبثقت عن الانتخابات تبين أنها تعكس المخاوف الأساسية بين مواطني ميانمار على نحو أفضل مما كان متوقعا.

وفي ظل قيادة الرئيس الجديد ثين سين، استجابت السلطات للدعوات المنادية بالانفتاح السياسي والاقتصادي. كما تم إحراز تقدم كبير فيما يتصل باتفاقيات السلام مع المتمردين المنتمين إلى أقليات عرقية ــ الصراعات المتأصلة في استراتيجية "فَرِّق تَسُد" التي زرعها الاستعمار، والتي حافظ عليها حكام البلاد بعد الاستقلال لأكثر من ستة عقود من الزمان. ولم يُفرَج عن الناشطة الحاصلة على جائزة نوبل أونج سان سو كي من الإقامة الجبرية في منزلها فحسب، بل إنها تخوض الآن حملة قوية للفوز بمقعد برلماني في انتخابات إبريل/نيسان الفرعية.

وعلى الجبهة الاقتصادية، أديرت عملية الميزانية بقدر غير مسبوق من الشفافية. كما تضاعف الإنفاق على الرعاية الصحية والتعليم، ولو كان ذلك انطلاقاً من قاعدة منخفضة. وتم تخفيف القيود المفروضة على الترخيص في عدة مجالات رئيسية. حتى أن الحكومة ألزمت نفسها بالمضي قدماً نحو توحيد نظامها المعقد في التعامل مع أسعار الصرف.

Introductory Offer: Save 30% on PS Digital
PS_Digital_1333x1000_Intro-Offer1

Introductory Offer: Save 30% on PS Digital

Access every new PS commentary, our entire On Point suite of subscriber-exclusive content – including Longer Reads, Insider Interviews, Big Picture/Big Question, and Say More – and the full PS archive.

Subscribe Now

الواقع أن روح التفاؤل في هذا البلد واضحة وملموسة، ولو أن بعض كبار السن الذين عاشوا لحظات استرخاء ظاهرية للحكم الاستبدادي من حين إلى آخر لم يتخلوا بعد عن حذرهم. وربما لهذا السبب كان البعض في المجتمع الدولي مترددين على نحو مماثل بشأن تخفيف عُزلة ميانمار. ولكن أغلب أهل بورما يستشعرون أن التغيير يُدار بشكل جيد، وأن البلاد تسلك الآن طريقاً لا رجعة فيه.

في فبراير/شباط، شاركت في بعض الحلقات الدراسية في يانجون (رانجون)، والعاصمة التي شيدت مؤخراً تحت اسم نايبيادو، والتي نظمها واحد من كبار خبراء الاقتصاد في البلاد، وهو يو مينت. وكانت الأحداث عظيمة نظراً للمشاركة القوية من عدد كبير من الحضور (أكثر من ألف في يانجون)، والعروض المدروسة والمؤثرة التي قدمها اثنان من خبراء الاقتصاد البورميين المشهورين على مستوى العالم، واللذين غادرا البلاد في ستينيات القرن العشرين، ثم عادا إليها في أول زيارة لهما بعد أكثر من أربعين عاما.

ولقد أشار أحد زملائي في جامعة كولومبيا، رونالد فيندلي، أن أحدهما وهو هلا مينت الذي يبلغ من العمر 91 عاما، والذي تولى التدريس كأستاذ في كلية لندن للاقتصاد، هو مبتكر أكثر استراتيجيات التنمية نجاحاً على الإطلاق مع الاقتصاد المفتوح والنمو القائم على التصدير. ولقد استخدمت استراتيجيته في مختلف أنحاء آسيا في العقود الأخيرة، وعلى الأخص في الصين. والآن ربما عادت هذه الاستراتيجية أخيراً إلى ديارها.

كنت قد ألقيت محاضرة في ميانمار في عام 2009. وآنذاك كان لزاماً على المرء أن يتوخى الحذر، نظراً لحساسية الحكومة، حتى فيما يتصل بالكيفية التي قد يضع بها المرء المشاكل التي تعاني منها البلاد في إطار معي ــ الفقر، وقصور الإنتاجية في المناطق الريفية، والقوى العاملة غير الماهرة. والآن ذهب الحذر ليحل محله شعور بضرورة الاستعجال في التعامل مع هذه التحديات وغيرها، وإدراك للحاجة إلى المساعدة الفنية وغير ذلك من أشكال المساعدة. (نسبة إلى عدد سكانها ودخلها، فإن ميانمار تُعَد واحدة من أقل الدول على مستوى العالم استفادة من المساعدات الدولية).

هناك الكثير من المناقشات التي تحاول تفسير السرعة التي تسير بها خطوات التغيير في ميانمار حاليا. فربما أدرك قادتها أن البلاد، التي كانت ذات يوم الدولة الأكثر تصديراً للأرز على مستوى العالم، أصبحت متخلفة بشوط بعيد عن جيرانها. وربما استوعبوا رسالة الربيع العربي، أو فهموا ببساطة أن الاستمرار في عزل البلاد عن بقية العالم أو منع الأفكار من التسرب إلى الداخل من الدول المجاورة بات مستحيلاً في ظل وجود أكثر من ثلاثة ملايين مواطن بورمي يعيشون في الخارج. وأياً كان السبب فإن التغيير جار الآن، ولا أحد يستطيع أن ينكر الفرصة السانحة بفضل هذا التغيير.

ولكن العديد من العقوبات الدولية، أياً كان الدور الذي لعبته في الماضي، تبدو الآن هدّامة ومعرقِلة. فالعقوبات المالية على سبيل المثال تمنع تطور نظام مالي حديث وشفاف ومتكامل مع بقية العالم. والاقتصاد الناجم عن هذا والقائم على النقد يُعَد بمثابة دعوة إلى الفساد.

وعلى نحو مماثل، كانت القيود التي تمنع الشركات المسؤولة اجتماعياً والتي تتخذ من الدول الصناعية المتقدمة مقراً لها من مزاولة الأعمال في ميانمار سبباً في ترك الساحة مفتوحة أمام شركات أقل ضميرا. ويتعين علينا أن نرحب برغبة ميانمار في الحصول على التوجيه والمشورة من المؤسسات المتعددة الأطراف وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي؛ ولكننا بدلاً من هذا نواصل تقييد الدور الذي تستطيع هذه المؤسسات أن تلعبه في المرحلة الانتقالية التي تمر بها البلاد.

يتعين علينا كلما قررنا أن نحجب المساعدة أو نفرض العقوبات أن نفكر ملياً في من سيتحمل أعباء جلب التغيير الذي ننشده. ومن المرجح أن يصب فتح التجارة في المنتجات الزراعية والمنسوجات ــ بل وحتى توفير المزايا من ذلك النوع الذي يُقَدَّم لبلدان فقيرة أخرى ــ في المصلحة المباشرة لفقراء المزارعين الذين يشكلون 70% من سكان البلاد، فضلاً عن توفير فرص عمل جديدة. فالأثرياء والأقوياء قادرون على التحايل على العقوبات المالية، ولو كان ذلك مكلفاً لهم؛ أما المواطنون العاديون فلا يمكنهم التهرب بنفس القدر من السهولة من التأثير الذي يفرضه عليهم وضع الدولة المنبوذة دوليا.

لقد رأينا أزهار الربيع العربي تتفتح على فترات متقطعة في قِلة من البلدان؛ وفي غيرها لا يزال من غير المؤكد ما إذا كان ذلك الربيع قد يؤتي ثماره. صحيح أن التحول في ميانمار كان أكثر هدوءاً من بعض الجوانب، من دون الضجة الإعلامية على صفحات الفيس بوك وتويتر، ولكن هذا التحول ليس أقل واقعية ــ وليس أقل استحقاقاً للدعم.

https://prosyn.org/IsD9cjBar