roubini4_Spencer PlattGetty Image_stock market Spencer Platt/Getty Images

تشريح الأزمة المالية

نيويورك ـ إن الولايات المتحدة تدور حالياً في دائرة مغلقة، وقد تمتد تأثيرات هذه الدائرة المغلقة لكي تطال الاقتصاد العالمي. فقد تسببت الأزمة المالية الأميركية في إحداث أزمة ائتمان حادة ساهمت في تفاقم حالة الركود في الولايات المتحدة، بينما يؤدي الركود المتزايد إلى تكبيد أسواق المال خسائر أشد ضخامة ـ الأمر الذي يهدد بالتالي بتقويض الاقتصاد بالكامل. فمع انهيار فقاعات الائتمان والأصول بات خطر الانهيار الشامل وراداً الآن في أسواق المال في الولايات المتحدة.

ولم تعد المشكلة تحيط بأزمة الرهن العقاري الثانوي فحسب، بل وبالنظام المالي "الثانوي" أيضاً. إذ أن ركود سوق الإسكان ـ الأسوأ في تاريخ الولايات المتحدة وما زال يتفاقم سوءاً بمرور كل يوم ـ لابد وأن يؤدي في النهاية إلى هبوط أسعار المساكن بنسبة تتجاوز 20%، مع خسارة الملايين من الأميركيين لمساكنهم. والآن بدأت حالات التخلف والعجز عن سداد الأقساط، فضلاً عن حالات حبس الرهن العقاري، في الانتشار من الرهن العقاري الثانوي إلى الرهن العقاري الأساسي. وعلى هذا فإن إجمالي الخسائر في الأدوات المالية المرتبطة بالرهن العقاري ـ بما في ذلك مشتقات الائتمان غير العادية مثل التزامات الدين المضمونة بسندات مالية ( CDOs ) ـ سوف يتجاوز الأربعمائة مليار دولار أميركي.

فضلاً عن ذلك، فقد بدأت العقارات التجارية في سلوك نفس المنحى الهابط الذي سلكته العقارات السكنية. فمن ذا الذي يريد بناء مكاتب، أو متاجر، أو مراكز تجارية في مدن الأشباح الخاوية المنتشرة في الغرب الأميركي؟

وعلاوة على دورة الهبوط في العقارات، أصبحنا نشهد الآن انهيار فقاعة أشد ضخامة، وهي فقاعة الائتمان الاستهلاكي: فمع انزلاق اقتصاد الولايات المتحدة إلى الركود سوف تتزايد حالات العجز عن سداد بطاقات الائتمان، والقروض الآلية، والقروض الطلابية. كما أصبح المستهلكون في الولايات المتحدة أقل قدرة على التسوق أو الادخار وباتوا مثقلين بالديون. وما دام الاستهلاك الشخصي يمثل ما يزيد على 70% من إجمالي الطلب في الولايات المتحدة، فلابد وأن يؤدي التراجع في إنفاق الأسر الأميركية إلى تعميق حالة الركود.

وبوسعنا أن نضيف إلى هذه المخاطر المالية المشاكل الهائلة المشاكل المحيطة بشركات تأمين السندات التي ضمنت العديد من المنتجات المعتمدة على السندات مثل التزامات الدين المضمونة بالسندات المالية. إذ أن التدني المحتمل في التقدير الائتماني لشركات التأمين هذه من شأنه أن يضطر البنوك والمؤسسات المالية التي تحتفظ بهذه الأصول الخطيرة إلى تخفيض قيمتها، الأمر الذي سيضيف مائة وخمسين مليار دولار إلى الخسائر المتصاعدة التي تكبدها النظام المالي حتى الآن.

ثم لدينا أيضاً مسألة تعرض البنوك والمؤسسات المالية الأخرى إلى الخسائر المرتفعة في القروض التي مولت العمليات المتهورة في الاستحواذ المدعم بقروض الائتمان ( LBOs ). فمع تفاقم حالة الركود سوف يصبح المزيد من عمليات الاستحواذ المدعم بقروض الائتمان، والتي كانت مثقلة بكميات ضخمة من الديون والتي لم تكن تمتلك أصولاً صافية كافية، عرضة للفشل مع عجز الشركات الأقل ربحاً أو الأكثر خسارة عن تسديد أقساط القروض.

PS_Sales_BacktoSchool_1333x1000_Promo

Don’t go back to school without Project Syndicate! For a limited time, we’re offering PS Digital subscriptions for just $50.

Access every new PS commentary, our suite of subscriber-exclusive content, and the full PS archive.

Subscribe Now

نتيجة لكل ما سبق فلسوف يؤدي الركود إلى زيادة حادة في حالات التخلف عن سداد الديون بين الشركات، والتي كان معدلاتها منخفضة للغاية طيلة العامين الماضيين، حيث بلغت في المتوسط 0.6% سنوياً، مقارنة بالمتوسط التاريخي الذي بلغ 3.8%. فأثناء حالات الركود العادية قد ترتفع معدلات التخلف عن سداد الديون بين الشركات إلى 10-15%، الأمر الذي يهدد حملة أسهم هذه الشركات بتكبد خسائر هائلة.

ونتيجة لهذا فقد أصبحت سوق مقايضة العجز عن سداد قروض الائتمان ( CDS ) ـ حيث يتم شراء وبيع الحماية ضد عجز الشركات عن سداد ديونها ـ مهددة أيضاً لتكبد خسائر هائلة. وإذا ما حدث ذلك فلسوف ترتفع أيضاً احتمالات إفلاس بعض الشركات التي باعت هذه الحماية، الأمر الذي يعني بدوره المزيد من الخسائر لمن اشتروا الحماية حين تعجز الشركات عن السداد.

وفوق كل هذا، هناك نظام مالي صوري يتألف من المؤسسات المالية غير المصرفية التي تقترض وتقرض أو تستثمر في الأصول السائلة الأطول أجلاً. ويتضمن هذا النظام الصوري أدوات الاستثمار المركبة ( SIVs )، وصناديق سوق المال، والصناديق ذات المجازفة العالية، وبنوك الاستثمار.

وهذه المؤسسات، مثلها في ذلك كمثل البنوك، عُرضة لخطر خسارة السيولة أو الأرباح الناجمة عن إعادة الاستثمار في السندات قصيرة الأجل. إلا أنها على عكس البنوك لا تتمتع بشبكة الأمان التي يوفرها الدور الذي تلعبه البنوك المركزية كملاذ أخير للاقتراض.

الآن ومع استمرار الركود، بدأت أسواق المال في الولايات المتحدة وأسواق المال العالمية في الانهيار: فأثناء حالات الركود العادية في الولايات المتحدة، يهبط مؤشر S&P 500 بمتوسط 28%، مع هبوط عائدات الشركات والأرباح. وتخلف الخسائر في أسواق الأسهم المالية أثراً مزدوجاً: فهي تؤدي إلى تقليص ثروة الأسر الأميركية وتدفعها إلى المزيد من الحرص في الإنفاق؛ كما تؤدي إلى تكبد المستثمرين الذين اقترضوا بهدف الاستثمار في السندات والأسهم خسائر هائلة، الأمر الذي يدفعهم إلى بيع الأصول بأسعار بخسة.

وكل هذا يعني تفاقم خطر اضطرار المستثمرين المعتمدين على قروض الائتمان في كل من سوقي الأسهم والائتمان إلى بيع الأصول السائلة في أسواق السيولة، الأمر الذي لابد وأن يؤدي إلى هبوط حاد في أسعار الأصول حتى تتدنى إلى ما هو أقل من قيمتها الأساسية. ولسوف تؤدي الخسائر المترتبة على ذلك إلى تفاقم الاضطرابات المالية والانكماش الاقتصادي.

إذا ما جمعنا كل هذه الخسائر في الأسواق المالية فلسوف يصل الإجمالي إلى تريليون دولار أميركي. ومن ثم فلسوف تعمل ضوابط الائتمان الأكثر إحكاماً على تقييد قدرة الأسر الأميركية والشركات على الاقتراض، والإنفاق، والاستثمار، ودعم النمو الاقتصادي. لقد تحول خطر الكساد في الولايات المتحدة والعالم، نتيجة للأزمة المالية الشاملة، من احتمال نظري إلى سيناريو واقعي محتمل.

https://prosyn.org/p0sO770ar