نيويورك ــ يصر العديد من المؤرخين وخبراء الاقتصاد على أننا نعيش في عصر تشكله قوى هائلة ومجردة. فتصرفات وقرارات رجل واحد أو امرأة واحدة، مهما بلغ أو بلغت من قوة، لا يستطيع أن يحدد مصير الأمم. وقد يكون هذا صحيحاً في كثير من الأحيان أو في الأغلب. ولكن هناك لحظات حيث قد تؤدي اختيارات زعيم فرد إلى تغيير مسار التاريخ. ومن المؤكد أن هذا كان صحيحاً تماماً في روسيا، وربما يتبين لنا قريباً أنه صحيح في تركيا أيضا.
ففي روسيا، نستطيع أن نتتبع وجود النظام الذي شيده الرئيس فلاديمير بوتن ذاته إلى قرار منفرد اتخذه لأسباب شخصية بحتة رجل منفرد، وهو بوريس يلتسين. ففيما كان يلتسين يستعد للتنحي عن منصبه كأول رئيس منتخب ديمقراطياً لروسيا، سعى إلى ترك خليفة قادر على حماية سلامته الشخصية وثروته وسلامة وثروة أفراد أسرته في شيخوخته. وبدا بوتن، رجل الكيه جي بي (الاستخبارات السوفييتية) السابق، أفضل تجهيزاً للاضطلاع بهذا الدور من شخصيات ذات ميول ديمقراطية مثل سيرجي ستيباشين، رئيس وزراء آخر في إدارة يلتسين، والذي لم يُظهِر حماساً كبيراً لحرب الشيشان الأولى عام 1994.
ولعل اختيار يلتسين كان مناسباً لأجندته الشخصية، ولكنه أسلم روسيا إلى العودة إلى الحكم الاستبدادي. وبشكل أو آخر، كان يلتسين مسؤولاً عن انفتاح روسيا على مستقبل ديمقراطي وعن إغلاق ذلك الفصل من تاريخ البلاد.
والآن يبدو أن مستقبل تركيا أيضاً أصبح بين أيدي رجل واحد: الرئيس السابق عبد الله غول. فمع توجه الناخبين الأتراك إلى صناديق الاقتراع في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني للانتخابات العامة الثانية في البلاد هذا العام، يتعين على غول أن يقرر ما إذا كان سيقف وراء الرئيس رجب طيب أردوغان. وقد يحدد اختياره ما إذا كانت تركيا ستظل على مسار ديمقراطي أم أنها قد تنحرف نحو مستقبل تشكله نسخة أردوغان من البوتينية.
الواقع أن غول وضِع في هذا الموقف الحرج لأن حزب أردوغان الحاكم، حزب العدالة والتنمية، فشل في الانتخابات الأخيرة التي عقدت في يونيو/حزيران في الفوز بأغلبية حاكمة، ناهيك عن الأغلبية الدستورية التي من شأنها أن تمكن أردوغان من تحويل النظام البرلماني في تركيا إلى نظام رئاسي.
وبعد الانتخابات، عكف حزب العدالة والتنمية على فحص اقتراحات تشكيل الائتلاف القادر على تشكيل حكومة ــ وهي المحاولة التي يتكهن كثيرون بأن أردوغان تعمد تخريبها، حتى يتمكن من الدعوة إلى انتخابات جديدة. والآن بعد الدعوة إلى انتخابات جديدة، يستخدم أردوغان شعارات قومية، بل وحتى الاقتراح بشن حرب فعلية ضد الأقلية القومية الكردية، بدفع حزبه إلى النصر. ويذكرنا هذا الخطاب بموقف بوتن المولع بالقتال خلال الحرب الثانية في الشيشان في عام 1999، والتي كانت سبباً في تعزيز شعبيته، وساعدت في جعله منافساً قادراً على العمل كخليفة ليلتسين.
Access every new PS commentary, our entire On Point suite of subscriber-exclusive content – including Longer Reads, Insider Interviews, Big Picture/Big Question, and Say More – and the full PS archive.
Subscribe Now
ذات يوم زعم أردوغان أن الديمقراطية "مثل القطار"، الذي تنزل منه "عندما تصل إلى مقصدك" ــ وهو التشبيه الذي سوف يوافق عليه بوتن بكل تأكيد. فبالنسبة للزعيمين، ليست الأنظمة الديمقراطية أكثر من مجرد أدوات فظة يمكن استخدامها لتعزيز طموحات المرء الشخصية، ثم يتخلص منها وقتما شاء.
ولكن هناك فارق واحد كبير بين بوتن وأردوغان. فبمجرد ابتعاد يلتسين عن الطريق، لم يكن بوتن معتمداً على أي شخصية أخرى؛ بل كان سيد الكرملين، والحكم النهائي في النزاعات بين الشخصيات والعشائر في التي تتألف منها النخبة الروسية في مرحلة ما بعد الاتحاد السوفييتي. أما أردوغان فهو على النقيض من هذا كان له شريك في تشكيل حزب العدالة والتنمية، وهو عبد الله غول. وقد حافظ غول، على النقيض من يلتسين، على تأييده السياسي القوي والمخلص منذ ترك منصبه.
عندما فاز حزب العدالة التنمية ــ الذي دافع عن شكل معتدل من الإسلام السياسي والذي تحدى العلمانية التي سادت منذ تأسيس تركيا الحديثة ــ بأول انتخابات في عام 2002، كان غول، الذي شغل منصب رئيس الوزراء، لأن أردوغان كان ممنوعاً من شغل أي منصب سياسي في ذلك الوقت. وقد دفعت الإصلاحات الاقتصادية وغيرها من تدابير التحرير التي تمت تحت قيادة غول كثيرين إلى الاعتقاد بأن حزب العدالة والتنمية قادر على خلق شكل من أشكال الإسلام السياسي أقرب إلى الديمقراطية المسيحية الأوروبية.
ولكن عندما تولى أردوغان منصب رئيس الوزراء في عام 2003، كان غول قد نحي إلى الظلال فعليا (ذلك أن منصب الرئاسة في تركيا في ذلك الوقت كان منصباً شرفياً إلى حد كبير). وفيما عمل أردوغان، كما فعل بوتن، على تركيز السلطة بين يديه، بدأت إنجازات غول الاجتماعية والاقتصادية تتفكك. ولم يعد أحد يتحدث عن حزب العدالة والتنمية الآن باعتباره نموذجاً يحتذيه الديمقراطيون المسلمون. والواقع أن العديد من كبار أعضاء حزب العدالة والتنمية الذين ساعدوا حكومة غول في تحقيق النجاح تركوا الحزب ــ أو طُرِدوا منه.
في كتابه "لمحات من الشجاعة"، كتب جون كينيدي أنه في عالم السياسة تأتي لحظة عندما "يتعين على الإنسان أن يفعل ما يتعين عليه أن يفعله ــ برغم العواقب الشخصية، وبرغم العقبات والمخاطر والضغوط". وبالنسبة لغول فإن هذه اللحظة الآن.
بوسع غول أن يلتزم الصمت ويراقب صديقه وشريكه السياسي السابق وهو يسير على خُطى بوتن الاستبدادية ويستهزئ بالجهود التي بذلها لكي يثبت للعالم أن الإسلام قادر على التعايش مع الديمقراطية والحداثة والتسامح. أو يمكنه أن يخرج مكنون صدره فيتحدث صراحة وعلناً ضد خطط أردوغان، فيساعد بالتالي في الحفاظ على عمل حياته، بل والأهم من ذلك، الحفاظ على نظام بلاده الديمقراطي. وهذه اللمحة من الشجاعة هي على وجه التحديد ما تحتاج إليه تركيا اليوم.
To have unlimited access to our content including in-depth commentaries, book reviews, exclusive interviews, PS OnPoint and PS The Big Picture, please subscribe
Despite being a criminal, a charlatan, and an aspiring dictator, Donald Trump has won not only the Electoral College, but also the popular vote – a feat he did not achieve in 2016 or 2020. A nihilistic voter base, profit-hungry business leaders, and craven Republican politicians are to blame.
points the finger at a nihilistic voter base, profit-hungry business leaders, and craven Republican politicians.
Shell-shocked Europeans will be tempted to hunker down and hope that Donald Trump does not make good on his most extreme threats, like sweeping import tariffs and quitting NATO. But this would be a catastrophic mistake; Europeans must swallow their pride and try to capitalize on Trump’s craving for admiration.
outlines a strategy for EU leaders to win over the next US president and mitigate the threat he represents.
Anders Åslund
considers what the US presidential election will mean for Ukraine, says that only a humiliating loss in the war could threaten Vladimir Putin’s position, urges the EU to take additional steps to ensure a rapid and successful Ukrainian accession, and more.
Log in/Register
Please log in or register to continue. Registration is free and requires only your email address.
نيويورك ــ يصر العديد من المؤرخين وخبراء الاقتصاد على أننا نعيش في عصر تشكله قوى هائلة ومجردة. فتصرفات وقرارات رجل واحد أو امرأة واحدة، مهما بلغ أو بلغت من قوة، لا يستطيع أن يحدد مصير الأمم. وقد يكون هذا صحيحاً في كثير من الأحيان أو في الأغلب. ولكن هناك لحظات حيث قد تؤدي اختيارات زعيم فرد إلى تغيير مسار التاريخ. ومن المؤكد أن هذا كان صحيحاً تماماً في روسيا، وربما يتبين لنا قريباً أنه صحيح في تركيا أيضا.
ففي روسيا، نستطيع أن نتتبع وجود النظام الذي شيده الرئيس فلاديمير بوتن ذاته إلى قرار منفرد اتخذه لأسباب شخصية بحتة رجل منفرد، وهو بوريس يلتسين. ففيما كان يلتسين يستعد للتنحي عن منصبه كأول رئيس منتخب ديمقراطياً لروسيا، سعى إلى ترك خليفة قادر على حماية سلامته الشخصية وثروته وسلامة وثروة أفراد أسرته في شيخوخته. وبدا بوتن، رجل الكيه جي بي (الاستخبارات السوفييتية) السابق، أفضل تجهيزاً للاضطلاع بهذا الدور من شخصيات ذات ميول ديمقراطية مثل سيرجي ستيباشين، رئيس وزراء آخر في إدارة يلتسين، والذي لم يُظهِر حماساً كبيراً لحرب الشيشان الأولى عام 1994.
ولعل اختيار يلتسين كان مناسباً لأجندته الشخصية، ولكنه أسلم روسيا إلى العودة إلى الحكم الاستبدادي. وبشكل أو آخر، كان يلتسين مسؤولاً عن انفتاح روسيا على مستقبل ديمقراطي وعن إغلاق ذلك الفصل من تاريخ البلاد.
والآن يبدو أن مستقبل تركيا أيضاً أصبح بين أيدي رجل واحد: الرئيس السابق عبد الله غول. فمع توجه الناخبين الأتراك إلى صناديق الاقتراع في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني للانتخابات العامة الثانية في البلاد هذا العام، يتعين على غول أن يقرر ما إذا كان سيقف وراء الرئيس رجب طيب أردوغان. وقد يحدد اختياره ما إذا كانت تركيا ستظل على مسار ديمقراطي أم أنها قد تنحرف نحو مستقبل تشكله نسخة أردوغان من البوتينية.
الواقع أن غول وضِع في هذا الموقف الحرج لأن حزب أردوغان الحاكم، حزب العدالة والتنمية، فشل في الانتخابات الأخيرة التي عقدت في يونيو/حزيران في الفوز بأغلبية حاكمة، ناهيك عن الأغلبية الدستورية التي من شأنها أن تمكن أردوغان من تحويل النظام البرلماني في تركيا إلى نظام رئاسي.
وبعد الانتخابات، عكف حزب العدالة والتنمية على فحص اقتراحات تشكيل الائتلاف القادر على تشكيل حكومة ــ وهي المحاولة التي يتكهن كثيرون بأن أردوغان تعمد تخريبها، حتى يتمكن من الدعوة إلى انتخابات جديدة. والآن بعد الدعوة إلى انتخابات جديدة، يستخدم أردوغان شعارات قومية، بل وحتى الاقتراح بشن حرب فعلية ضد الأقلية القومية الكردية، بدفع حزبه إلى النصر. ويذكرنا هذا الخطاب بموقف بوتن المولع بالقتال خلال الحرب الثانية في الشيشان في عام 1999، والتي كانت سبباً في تعزيز شعبيته، وساعدت في جعله منافساً قادراً على العمل كخليفة ليلتسين.
Introductory Offer: Save 30% on PS Digital
Access every new PS commentary, our entire On Point suite of subscriber-exclusive content – including Longer Reads, Insider Interviews, Big Picture/Big Question, and Say More – and the full PS archive.
Subscribe Now
ذات يوم زعم أردوغان أن الديمقراطية "مثل القطار"، الذي تنزل منه "عندما تصل إلى مقصدك" ــ وهو التشبيه الذي سوف يوافق عليه بوتن بكل تأكيد. فبالنسبة للزعيمين، ليست الأنظمة الديمقراطية أكثر من مجرد أدوات فظة يمكن استخدامها لتعزيز طموحات المرء الشخصية، ثم يتخلص منها وقتما شاء.
ولكن هناك فارق واحد كبير بين بوتن وأردوغان. فبمجرد ابتعاد يلتسين عن الطريق، لم يكن بوتن معتمداً على أي شخصية أخرى؛ بل كان سيد الكرملين، والحكم النهائي في النزاعات بين الشخصيات والعشائر في التي تتألف منها النخبة الروسية في مرحلة ما بعد الاتحاد السوفييتي. أما أردوغان فهو على النقيض من هذا كان له شريك في تشكيل حزب العدالة والتنمية، وهو عبد الله غول. وقد حافظ غول، على النقيض من يلتسين، على تأييده السياسي القوي والمخلص منذ ترك منصبه.
عندما فاز حزب العدالة التنمية ــ الذي دافع عن شكل معتدل من الإسلام السياسي والذي تحدى العلمانية التي سادت منذ تأسيس تركيا الحديثة ــ بأول انتخابات في عام 2002، كان غول، الذي شغل منصب رئيس الوزراء، لأن أردوغان كان ممنوعاً من شغل أي منصب سياسي في ذلك الوقت. وقد دفعت الإصلاحات الاقتصادية وغيرها من تدابير التحرير التي تمت تحت قيادة غول كثيرين إلى الاعتقاد بأن حزب العدالة والتنمية قادر على خلق شكل من أشكال الإسلام السياسي أقرب إلى الديمقراطية المسيحية الأوروبية.
ولكن عندما تولى أردوغان منصب رئيس الوزراء في عام 2003، كان غول قد نحي إلى الظلال فعليا (ذلك أن منصب الرئاسة في تركيا في ذلك الوقت كان منصباً شرفياً إلى حد كبير). وفيما عمل أردوغان، كما فعل بوتن، على تركيز السلطة بين يديه، بدأت إنجازات غول الاجتماعية والاقتصادية تتفكك. ولم يعد أحد يتحدث عن حزب العدالة والتنمية الآن باعتباره نموذجاً يحتذيه الديمقراطيون المسلمون. والواقع أن العديد من كبار أعضاء حزب العدالة والتنمية الذين ساعدوا حكومة غول في تحقيق النجاح تركوا الحزب ــ أو طُرِدوا منه.
في كتابه "لمحات من الشجاعة"، كتب جون كينيدي أنه في عالم السياسة تأتي لحظة عندما "يتعين على الإنسان أن يفعل ما يتعين عليه أن يفعله ــ برغم العواقب الشخصية، وبرغم العقبات والمخاطر والضغوط". وبالنسبة لغول فإن هذه اللحظة الآن.
بوسع غول أن يلتزم الصمت ويراقب صديقه وشريكه السياسي السابق وهو يسير على خُطى بوتن الاستبدادية ويستهزئ بالجهود التي بذلها لكي يثبت للعالم أن الإسلام قادر على التعايش مع الديمقراطية والحداثة والتسامح. أو يمكنه أن يخرج مكنون صدره فيتحدث صراحة وعلناً ضد خطط أردوغان، فيساعد بالتالي في الحفاظ على عمل حياته، بل والأهم من ذلك، الحفاظ على نظام بلاده الديمقراطي. وهذه اللمحة من الشجاعة هي على وجه التحديد ما تحتاج إليه تركيا اليوم.
ترجمة: مايسة كامل Translated by: Maysa Kamel