3381420346f86f54126634c3_jk503.jpg

عالم من المخاطر في مرحلة ما بعد الأزمة

ميلانو ـ إن المظهر الأكثر بروزاً بين المظاهر التي يتسم بها الاقتصاد العالمي اليوم يتلخص في حجم وترابط المخاطر الكلية التي تواجهه. فقد أسفرت فترة ما بعد الأزمة عن نشوء عالم متعدد السرعات، حيث تخوض الاقتصادات المتقدمة الكبرى ـ باستثناء ملحوظ لألمانيا ـ معركة ضد النمو المنخفض والبطالة المرتفعة، في حين نجحت اقتصادات الأسواق الناشئة الرئيسية (البرازيل، والصين، والهند، وإندونيسيا، وروسيا) في إعادة النمو إلى مستويات ما قبل الأزمة.

وينعكس هذا التباين في التمويل  العام. حيث تميل نسب الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في الاقتصادات الناشئة إلى الهبوط باتجاه 40%، في حين تميل نظيراتها في الاقتصادات المتقدمة إلى الصعود باتجاه 100%، في المتوسط. ولم تضع بلدان أوروبا ولا الولايات المتحدة خططاً معقولة في الأجل المتوسط لتثبيت استقرار مواقفها المالية. ويعكس تقلب سعر صرف اليورو في مقابل الدولار عدم اليقين بشأن تحديد أي من ضفتي الأطلسي يواجه مخاطر أعلى من تلك التي يواجهها الآخر.

وفي أوروبا، أدى هذا إلى تخفيض تصنيف العديد من الديون السيادية للبلدان الأكثر كربا، فضلاً عن نوبات من امتداد العدوى إلى اليورو، ويبدو أن المزيد من هذا بات مرجحا.

أما عن الولايات المتحدة، فأصدرت وكالة موديز مؤخراً تحذيراً بشأن الديون السيادية للبلاد في مواجهة عدم اليقين حول استعداد الكونجرس الأميركي لرفع سقف الديون وسط جدال حزبي كبير حول العجز. وحتى الآن تظل كل من القضيتين ـ سقف الديون والخطة المعقولة للحد من العجز ـ بلا حل.

هذا فضلاً عن تواضع النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة، والذي يبدو وكأنه يأتي في الأساس من شرائح من القطاع القابل للتداول، وهو القطاع المعرض للطلب من الأسواق الناشئة والمستفيد منه. أما القطاع غير القابل للتداول، والذي خلق كل فرص العمل الجديدة تقريباً طيلة العقدين السابقين للأزمة، فإنه يعاني من الركود بسبب النقص في الطلب المحلي والموازنات الحكومية المقيدة إلى حد خطير. والنتيجة الطبيعية لكل ذلك هي البطالة المستمرة. ومن ناحية أخرى، سنجد أن الجانب القابل للتداول ليس كبيراً بالدرجة الكافية من حيث القدرة التنافسية حتى يتمكن من استيعاب الركود في النمو وتشغيل العمالة.

وعلى النقيض من ذلك، نجح النمو السريع والتحضر في الأسواق الناشئة في إحداث طفرة استثمارات عالمية موثقة في دراسة أخيرة قام بها معهد ماكينزي العالمي. والنتيجة المرجحة هي أن ارتفاع تكلفة رأس المال في الأعوام القليلة المقبلة، الأمر الذي لابد وأن يفرض ضغوطاً على الكيانات التي تفرط في الاعتماد على الاستدانة، بما في ذلك الحكومات التي تعودت على أسعار الفائدة المنخفضة والتي قد لا تنتبه إلى قدوم هذا التحول في الوقت المناسب.

HOLIDAY SALE: PS for less than $0.7 per week
PS_Sales_Holiday2024_1333x1000

HOLIDAY SALE: PS for less than $0.7 per week

At a time when democracy is under threat, there is an urgent need for incisive, informed analysis of the issues and questions driving the news – just what PS has always provided. Subscribe now and save $50 on a new subscription.

Subscribe Now

وسوف تتكبد البلدان التي تعاني من عجز بنيوي مزمن في الحساب الجاري تكاليف تمويل خارجي إضافية، وفي نهاية المطاف سوف تبلغ الحدود القصوى للاستدانة. وعند تلك النقطة، سوف يتجلى بوضوح ضعف إنتاجية هذه البلدان وعجز قطاعاتها القابلة للتداول عن المنافسة.

إن الأمر يتطلب تعديلات ضرورية. وتتلخص الخيارات في مستويات الاستثمار الأعلى الممولة بالمدخرات المحلية، أو نمو الإنتاجية، أو تعزيز القدرة التنافسية، أو ركود الدخول الحقيقية في ظل إعادة التوازن بالاستعانة بآلية سعر الصرف (أو جرعة ضخمة من الانكماش المحلي في بلدان منطقة اليورو المثقلة بالديون، ما دامت غير قادرة على السيطرة على أسعار صرف عملاتها).

إن العديد من هذه المشاكل البنيوية كانت مستترة قبل الأزمة، الأمر الذي أدى بالتالي إلى تأخير استجابات كل من السوق والقائمين على وضع السياسات. ففي الولايات المتحدة ساعد فرط الاستهلاك المحلي، الذي كان مستنداً إلى فقاعة أصول تغذت على الديون، ساعد في دعم العمالة والنمو، ولو أن الحساب الجاري الحالي كان يحمل علامات مثيرة للانزعاج. وفي العديد من البلدان الأوروبية كانت الحكومات تبادر إلى سد الفجوة الناجمة عن الإنتاجية المتأخرة، بالاستعانة بأسعار الفائدة المنخفضة.

وفي كل الحالات، كان تقييم التوازن المالي مبنياً بالخطأ على الاستقرار المفترض واستدامة مسارات النمو التي كانت قائمة. والواقع أن الافتراض بأن بيئة النمو الحميدة وأسعار الفائدة المواتية كانت تشكل حالة دائمة أدى إلى إخفاق ذريع في التعامل مع التقلبات الدورية في الاقتصادات المتقدمة، حيث تحول العجز في الموازنات إلى حالة مزمنة، وليس استجابة مؤقتة لركود الطلب المحلي.

وفي الأسواق الناشئة، يشكل نمو الصين قدراً عظيماً من الأهمية، بسبب حجمها وأهميتها باعتبارها سوقاً لصادرات البرازيل والهند وكوريا الجنوبية واليابان، بل وحتى ألمانيا. ولكن التضخم يشكل تهديداً مزدوجاً بالنسبة للصين، إذ يعرض نموها الاقتصادي وتماسكها الداخلي للخطر. فقد أصبح السكن فوق طاقة العديد من الشباب المنضمين حديثاً إلى قوة العمل. ولا شك أن كبح جماح تضخم الأسعار والأصول من دون تقويض النمو سوف يشكل مهمة بالغة الحساسية والدقة.

وتشترك الصين مع الولايات المتحدة فضلاً عن ذلك في التحدي المتمثل في الحد من اتساع فجوة التفاوت في الدخول. ففي كل من الحالتين، لابد وأن تستمر محركات تشغيل العمالة في العمل بلا انقطاع، أو أن يعاد تشغيلها من أجل تجنب التقلبات السياسية والاضطرابات الاجتماعية. ومن غير المرجح أن ينشأ عن ذلك نزعة إلى الحماية على نطاق واسع ـ ليس بعد على الأقل ـ ولكن هذا قد يتغير إذا لم يتم التعامل بحكمة واقتدار مع القضايا المتعلقة بالعمالة وتوزيع الدخول.

أما عن آسيا، التي تتسم بالافتقار النسبي إلى الموارد مقارنة بالشرق الأوسط وأميركا اللاتينية وأفريقيا، فإن ارتفاع تكاليف السلع الأساسية، الناجم جزئياً عن نمو الأسواق الناشئة، يشكل سبباً للانزعاج. كما يُعَد أمن الطاقة من عوامل الخطر البارزة، وخاصة في ضوء النتائج غير المؤكدة للانتفاضات الشعبية في الشرق الأوسط.

إن نمو الأسواق الناشئة يُعَد بمثابة البقعة المشرقة في العالم، ويبدو ذلك النمو مستداماً على الرغم من الفترة التي تمر بها البلدان المتقدمة من إعادة التوازن والنمو البطيء. ولكن الأمر لا يخلو من المخاطر الكامنة. ذلك أن أي انحدار كبير في أوروبا أو أميركا من شأنه أن يخلف تأثيرات سلبية كبرى على هذه الاقتصادات، التي لا تزال قادرة على توليد القدر الكافي من الطلب المتراكم لدعم نموها، ولكنها غير قادرة على توليد القدر الكافي منه للتعويض عن انخفاض كبير في الطلب في البلدان المتقدمة.

ولعل الأسواق أدخلت في حساباتها التأثير المجمع لهذه المخاطر الكلية، والذي أصبح اليوم منتشراً ومترابطا، ولكنني أشك في ذلك. ورغم ذلك فإن كل البلدان تتقاسم مصلحة فورية وقوية في الحد من ذلك التأثير. ولا نملك إلا أن نأمل أن يؤدي الوعي بهذه الحقيقة إلى نشوء حس الإلحاح المطلوب بشدة لتصميم الاستجابات السياسية الوطنية، فضلاً عن الجهود التي تبذلها مجموعة العشرين وغيرها من الهيئات الدولية لتحسين عملية تنسيق السياسات الدولية.

https://prosyn.org/BMoKDtdar